الخبر بسيط ولكنه مثير للجدل. فقد نشر التقرير السنوي قائمة الشعوب الأكثر سعادة Happy Planet Index وتتصدر الجزائر الشعوب العربية الأكثر سعادة، متبوعة بفلسطين والعراق وتونس والمغرب وسوريا والسعودية واليمن ولبنان وليبيا ومصر والإمارات وتحتل قطر ذيل الترتيب.
ويعتمد التقرير في تصنيفه على ثلاثة معايير هي معدل الرفاهية ومعدل الحياة المتوقعة للسكان ومعدل البصمة البيئية للمجتمع.
طبعا من حق أي هيئة، لسبب أو لآخر، أن تقوم بعمل شبيه لكن من الصعب أن يمنع الإنسان العربي نفسه من الضحك، وطرح السؤال الحتمي الذي قد يبدو استفزازيا: هل كان العالم العربي سعيدا يوما؟ أتساءل أحيانا كيف كان اليمن السعيد قبل حلول الزمن الذي نعيشه اليوم لنتعرف على معنى محدد للسعادة، أو على الأقل لنتمكن من بناء تعريف عربي للسعادة؟ لأن ما نراه اليوم يثير الشفقة والحزن معا.
دم يومي في الشوارع. تقتيل عبثي في كل مكان. حرق لكل منجز تم تشييده بالدم والعرق والآلام. تمزيق لكل وحدة، البلد الواحد الذي يتشظى كل يوم أكثر إلى آلاف القطع الدينية والإثنية والعرقية والطائفية. تشريد الملايين من السكان الذين لا يطلبون إلا السلام والحياة لهم ولأولادهم. خيرات أصبحت تنهب في العلن من طرف القوى المحلية والدولية. وعلى الرغم من هذا نجد من يتحدث عن السعادة العربية. أعرف جيدا أن مفهوم السعادة مفهوم معقد. ويمكنني فرديا أن أصنع سعادتي من لا شيء، لكن الأمر هنا يتعلق بقياسات مجموعات بشرية كثيرة تلتئم نحو مفهوم مبهم اسمه السعادة.
الغرب الذي على الرغم من أزماته المتواترة، تجاوز المعضلة الوجودية باتجاه الحياة التي تغني الإنسان من حقوق وواجبات فهو سعيد في حدود ضمان هذه الحقوق وقيامه بواجبات المواطنة التي قد تكون أحيانا قهرية لكنها جزء مهم من تحقيق الذات الضامنة للسعادة. فكل ما يجعل هذه الذات تتطور وتتحرر وتنعم بمكاسب الحياة، يجعل من السعادة رهانا جميلا. يصبح السفر والاستمتاع بالفنون وغيرها، جزءا حيويا من فعل السعادة. أن يتحكم الإنسان في وقته، وينتقل بسهولة وحرية وبدون صعوبات تذكر، بين المدن والأصدقاء أنّا يشاء.
الأوروبي مثلا يشعر بالسعادة وهو ينتقل من بلد لبلد أوروبي بهوية بسيطة ولا يحتاج إلى جواز للمرور. يشعر بالأمان والحماية أينما حل. والأمان هو أهم ركيزة في حياة الأفراد والجماعات. الأوروبي تعود على نظام معين يضمن سعادته وسعادة أبنائه، من الصعب أن يتنازل عنه أمام أية قوة. ماذا بقي للعربي من كل هذا ليكون سعيدا؟ تضاءلت طلبات المواطن العربي حتى أصبحت غريزية.
يعيش غريزيا ويدافع عن وجوده بنفس القوة الغريزية. يتحايل على الطبيعة والقوة الضاغطة غريزيا. حتى إيمانه أصبح غريزيا. فقد الأمل في كل شيء، وتراجعت أحلامه الكبيرة إلى حدودها الدنيا، بالخصوص بعد اهتزاز وسقوط وانهيار الدول التي كان يمكنها أن تتحول إلى نماذج للتطور العربي الحر والمستقل والسعادة، نظرا لإمكاناتها البشرية والمادية والزراعية الكبيرة كالعراق وسوريا والسودان وليبيا وتراجع الجزائر بعد حرب أهلية مدمرة. تضاءلت حدود السعادة حتى انحصرت في حدودها الدنيا: البحث عن قليل من الأمان الذي لا يستطيع حتى الحيوان أن يعيش من دونه. يكفي المواطن العربي مثلا الحصول على مكان يأوي إليه ليكون في قمة السعادة.
أن يجد ما يعيل به عائلته في ظل هذا الخراب المستشري، ليكون ملكا. لا يسأل عن أية رفاهية وهو تائه في الصحاري والغابات والوحوش الضارية والمخاطر المحدقة بقدر سؤاله أولا عن الأمان. كلما أحس به شعر بأن الدنيا ببعض الخير.
كلها علامات لا تدل على أنه أصبح سعيدا ولكنه عاد إلى حالة غريزية لا يختلف فيها عن بقية المخلوقات التي تدبّ على الأرض. أصبحت كلمة سعادة للعربي، مضحكة، ونكتة مبكية أيضا. خسر أهم ركيزة للسعادة، الأمان، بعدما دخلت أغلبية الدول العربية في حروب داخلية مدمرة ليس فقط للاقتصاد ولكن أيضا للكيانات الداخلية للجماعات والأفراد.
افتتحت الجزائر رحلة الآلام القادمة في التسعينيات، وتعيش رمادها بقية البلدان العربية في جو من الانهيار والخوف من مستقبل لم يعد غامضا ولكن ظلامه أصبح أكيدا إذا بقيت الوتيرة على ما هي عليه اليوم. حتى البلدان العربية الغنية التي بها مستوى السعادة مضاهٍ لما هو في أوروبا على الأقل من حيث الرفاه المادي ليست في منأى عن هذا الظلام في حالة انهيار أسعار النفط التي تلوح بقوة في الأفق، مع بدء استغلال الزيت الصخري في أمريكا الذي أخرجها نهائيا من الخوف الدائم على مخزونها.
مستوى الحياة الداخلية للعربي شديدة الانحدار والتخلف. خسر كل شيء بما في ذلك علاقاته الجمالية بالمحيط التي كانت إلى وقت قريب تسعده وتزيد من فخره كلما ذكر مدنه وهندستها ومعالمها التاريخية والحضارية، لا يرى اليوم في المكان الذي يعيش فيه، أو في محيطه أو على الشاشات، إلا مدنا محطمة غارقة في الدم والرماد والمجاري العفنة، والأوساخ. لدرجة أنه تآلف مع محيط شقي، ولم يعد شيء يثيره في أغلب المدن العربية التي أصبحت تعيش بؤسا غير مسبوق إذا استثنينا بعض دور الخليج. لا تهمه الأمراض فهي في النهاية غير مرئية ويقنع نفسه كما هي العادة بأنها لن تمس إلا الآخرين.
الأخطر هو أن ما يراه يوميا لا يربي في النهاية ذائقة الفرح والسعادة والنور ولكن يحول الرداءة إلى نظام صارم وقانون حاكم للحياة القادمة وكأنها هي المقياس، إذ ينتقل المظهر الخارجي من كونه مجرد ظاهرة طارئة، ليتحول إلى فكر يتحكم في الحياة كلها. يجب أن لا نستبعد المظاهر المتطرفة من هذا التحول اليومي للمدن والمساحات والأذهان. أليست داعش وأخواتها إلا التعبير الطبيعي والموضوعي عن وضع متفكك ومنهار مثل هذا تسببت فيه الدكتاتوريات العربية ومثيلاتها العالمية التي حمتها؟
صحيح أن السعادة نسبية، لكن العيش في عمق التراجيدية يجعل من هذه الحياة حالة تراجيدية أيضا. يذكر هذا التصور بنيتشه وهو يوصّف عزلة المثقف، من دون البحث لنفسه عن تبرير، كما يفعل الكثير من مثقفي اليوم: الذي تحول في عزلته إلى دب الكهوف، ستحمل أفكاره أيضا لونا غسقيا ورائحة الرطوبة والعفن.
في السبت 29 نوفمبر-تشرين الثاني 2014 04:07:18 م