|
وبالفعل فقد كان الكل على موعدٍ مع لحظة تاريخية نادرة, قلما يجود بها التاريخ لأمة مثقّـلة بأدران التشظي واسقام التمزق , وذلك مطلع عقد تسعينات القرن الفارط, وتحديدا يوم 22مايو 1990م, حين هبّـت رياح التغيير عاصفة عتية على القسم الشرقي من الكرة الأرضية, اغتنم رجال الدوليتين اليمنيتين صادقي النوايا شمالا وجنوبا هذه الخافقة قبل سكونها, مستفيدين منها داخليا- أو هكذا خُــيّل لنا حينها ان نواياهم مخلصة وخالصة لوجه الله والوطن, قبل ان تنزلنا السنوات اللاحقة من ذلك التاريخ من شامخٍ وحدوي عال إلى خفض وترطمنا بقوة بالأسفلت-, واضحى الحُلم واقعا و الألم أملاً' والتنائي بديلا عن التداني, والانفصال وصالا ,مسترشدين بالاتفاقيات الوحدوية التي أبرمت بين نظامي الدولتين في النصف الأول من السبعينات في القاهرة وطرابلس الغرب والجزائر, كمرجعيات ووثائق وحدوية تقام بموجبها مداميك وأعمدة الدولة الموحدة المنتظرة.
وما هي إلا سنوات قليلة ثلاث سنوات ونيف, مـرّت سريعة كخفق الجناح من أمام أعين الجميع, حتى دخلت البلاد في صراع مرير بين مشروعين متضادين: مشروع بناء دولة مدنية خالية من هيمنة مثلث القوى التقليدية القبَـلية والدينية و العسكرية, مشروع يقوم على قوة القانون لا قانون القوة, مشروع مدني حداثي بعيدا عن هيمنة المركز وسطوة الدولة البسيطة المستبدة الفاسدة, قاد هذا المشروع العصري الطرف الجنوبي وبعض القوى الوطنية الشمالية وبالذات اليسارية منها.
وبين مشروع تقليدي محافظ تقوده قوى رجعية التفكير مغموسة بفكر الهيمنة والفساد والاثراء الغير مشروع , شرع اصحاب هذا المشروع الانغلاقي من الوهلة الاولى للوحد في التمسك بنمطية دولة الشمال وهيمنة ادواتها وتسيُّد إدارة مؤسساتها الرتيبة وتعميمها على الدولة الموحدة جنبا الى جنب بطمس وتغييب معالم الادارة الجنوبية الشفافة التي ورثت جزء منها من الادارات الحكومية البريطانية .
خاض أصحاب هذين المشروعين سجال مرير بالمضمار السياسي والاجتماعي دخلت معها البلاد في خضم أزمة قاتمة السواد قبل ان تفضي مساع ووساطات داخلية مستقلة وعربية لرأب الصدع بينهما الى التوصل لمشروع سياسي طموح مثّـلَ بصدق مشروع بناء دولة يمنية مدنية حديثة ,تقسم فيها البلاد الى عدة مخاليف( أقاليم) تتمتع بحكم ذاتي ومستقل الى حدٍ كبير لتخفيف قبضة المركز وسطوة فساده وفوضويته) سُـمّيَ هذا المشروع الذي وقعّـت عليه كل القوى اليمنية بالعاصمة الأردنية عمان بــ(وثيقة العهد الاتفاق), ولكن سرعان ما انقلب عليه الطرف المعارض لبناء الدولة المدنية بدعم ومساندة واضحة من قبل الإسلام السياسي بكل تفرعاته من التنظيمات المتطرفة التي قدمت لتوها من أفغانستان لتعلن الجهاد ضد الطرف الجنوبي الشريك بهذه الوحدة وعلى الحزب الاشتراكي بوجه خاص, ومع هذه القوى الدينية المتطرفة اصطفت القوى القبلية وبالأخص من قبيلتي حاشد وبكيل الشماليتين ومن خلفهما تقف القوى والرموز العسكرية التي كانت تمثل صمام امأن نظام الحكم باليمن الشمالي منذ عشرات السنين. اصيبت هذه القوى بالذعر من أن يأخذ مشروع وثيقة العهد والاتفاق طريقه الى التنفيذ, كون هذا يعني لها بالضرورة سحب بساط المصالح والهيمنة من تحت اقدامها بصورة ناعمة يجعلها مكشوفة الظهر تعيش على هامش الدولة المنشودة.
ولما كان هذا الرعب يتملكها ويستبد بها يوما بعد يوم وتتلاشى من أمامها كل الخيارات تدريجيا, كان لابد من ان تعمد الى آخر العلاج(الكيّ),ولسان حالها يردد: انها الحرب انها الحرب ,وكان لها ما رادات, و لو الى حين, واستعرت جبهات القتال من صنعاء شمال الى عدن جنوبا الى حضرموت شرقا جرت فيها دماء غيرة وازهقت فيها انفس كثيرة. وشيئا فشيئا أخذت الحرب وأخذ الصراع برمته ينحو منحى الفرز (شمال جنوب) واصبحت الوحدة منذ ذلك الحين وحتى هذه اللحظة على المحك.
ولما كان الطرف الشمالي يقف موقف القوي عسكريا وعدديا مستغلا تواضع الوعي الجماهيري بمحافظاته الشمالية لمعاني الدولة المدنية الحديثة ونجاح الطرف الشمالي بإظهار الحرب على انها حرب بين طرفين وحدوي وانفصالي ,وليست بين مشروعين دولة مختلفين هيج هذا التضليل مكامن الخوف لدى المواطن الشمالي من ضياع الجنوب الثري من بين يديه. ولم يكترث أي الطرف الشمالي ومعه بعض القوى الجنوبية المتضررة من صراعات دولة الجنوب السابقة لكل الدعوات الدولية والاقليمية بوقف الحرب التي شنها عنوة على شريكه الوحدوي بما فيها قراريّ مجلس الأمن رقمي (931) و(924)، لعام 1994م.
وبعد مرور قرابة شهر على الحرب أعلن الجنوب على لسان نائب الرئيس حينها السيد/ علي سالم البيض, قرار استعادة الدولة الجنوبية من منطلق فلسفة دفاعية اضطرارية بحتة بعد ان تقاعست معظم القوى الشمالي بالاصطفاف مع قوى التغيير التي يقودها الحزب الاشتراكي كممثل للجنوب, سرعان ما ذاب حبر ذلك القرار تحت شواظ قذائف مدفعية قوات الرئيس علي عبدالله صالح ,وتمزقت أوراقه ا تحت سنابك خيول الجماعات التكفيرية التي قادها الشيخ عبدالمجيد الزنداني وعبدالوهاب الديلمي, بشراكة فاعلة من رموز القوى العسكرية .
وفي 7يوليو1994م وضعت المعارك العسكرية أوزارها, وبقيت الحرب الشاملة تأخذ لها اشكالا متعددة وابعادا مختلفة ضد الجنوب وضد القوى الوطنية الشمالية على قلتها, تارة على شكل نهب ثروات, وتارة على شكل إقصاء لكوادر الجنوب وطمس هويته وتاريخه, وتارة ثالثة على شكل قمع وتنكيل ومحاكمات وتصفيات جسدية . استمر هذا الحال على وتيرة الحركة وإيقاع عالي من التسارع, ليجد الجنوبيون بالتالي أنفسهم اقلية مستضعفه في بلادهم وهنود حمر في وطنهم. بلغت حالة الظلم والتعسف والاقصاء مداه حين تمت الصفقة التاريخية بين نظام علي عبدالله صالح والمملكة العربية السعودية بقبول صنعاء بترسيم الحدود كحلم ظلت المملكة العربية السعودية تحلم بتحققيه منذ عشرات السنين مقابل قطع المعونات الشهرية على ضآلتها على القيادات الجنوبية النازحة بالخارج وإجبارها على العودة الى الداخل صاغرة منكسرة تحت هيمنة الخصم المنتصر.!
ظل الوضع بالنسبة للجنوب يراوح مكانه في دائرة البؤس ومربع الضيم, كورق الورد الذابل, الى ان هبت عاصفة خليجية عاتية لاتزال تعصف بالجهات الأربعة حتى اللحظة, ينتظر الجميع ما ستفضي اليه جنوبا وشمالا.
في الإثنين 30 نوفمبر-تشرين الثاني 2015 10:10:19 م