|
طبقا لمعهد الإحصاء التركي، زاد التبادل التجاري بين تركيا وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي على الضعفين خلال السنوات الخمس الماضية إلى (5.6) مليار دولار أميركي، وتركيا اليوم هي سابع أكبر شريك تجاري لدولة الاحتلال، وفي الثامن عشر من الشهر الماضي وصف رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو حجم التبادل التجاري بين الجانبين بأنه "في أعلى مستوى له في التاريخ"، بالرغم من "الوضع الصعب في العلاقات الدبلوماسية" كما قال.
ومن المعروف أنه منذ الحرب العدوانية التي شنتها دولة الاحتلال على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عام 2008 خفضت أنقرة تمثيلها الدبلوماسي إلى مستوى سكرتير ثاني، وقد أعلن نائب مدير عام وزارة خارجية دولة الاحتلال آفيف شيرؤون يوم الجمعة الماضي أن الجانبين اتفقا على رفع التمثيل الدبلوماسي بينهما إلى مستوى قائم بالأعمال. ولم يتبادل الجانبان السفراء حتى الآن.
لكن كما هو الحال دائما فإن دولة الاحتلال هي المستفيد الأول من أي خلافات عربية بينية أو عربية - إسلامية أو عربية وإسلامية مع القوى العظمى، فالأزمة التركية - الروسية المتصاعدة حاليا كما يبدو قد عززت فرص نجاح عملية تطبيع العلاقات التركية الدبلوماسية مع دولة الاحتلال وكانت هذه العملية جارية فعلا قبل اندلاع الأزمة التركية - الروسية..
فنتنياهو يتوقع احتمال عودة العلاقات الدبلوماسية مع تركيا "قريبا" (18/11/2015)، والرئيس التركي رجب طيب اردوغان يقول على هامش قمة المناخ في باريس في الثلاثين من الشهر المنصرم إن "من الممكن إصلاح" العلاقات الثنائية.
وكانت فضائية "العربية" في الأول من تموز/ يوليو الماضي نقلت عن وزير الخارجية التركي مولود أوغلو قوله إن "الكرة الآن في ملعب إسرائيل" وإن الصراعات الداخلية في دولة الاحتلال هي التي "تؤخر" ما كانت القائم بأعمال دولة الاحتلال في أنقرة أميرا أورون في الحادي والعشرين من الشهر الماضي قد وصفته ب"العملية الجارية" لتطبيع العلاقات الثنائية بعد الاجتماع الذي عقده مدير عام وزارة الاحتلال الجديد دوري غولد مع نظيره التركي فريدون سينيرلي أوغلو بروما في حزيران/ يونيو الماضي.
وتركيا مثلها مثل العديد من الدول المتضامنة تاريخيا مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة كالصين والهند تتذرع بأنها لا تستطيع أن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين بعد أن اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بدولة الاحتلال وأبرمت معها اتفاقيات سياسية واقتصادية وأمنية.
فبدأت هذه الدول تفصل بين السياسي وبين الاقتصادي في علاقاتها مع دولة الاحتلال لتواصل دعمها لفلسطين سياسيا بينما علاقاتها الاقتصادية والأمنية والعسكرية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي تتسارع بوتيرة قياسية.
غير أن التوقعات الفلسطينية لا تستطيع أن تساوي بين البلدان غير الإسلامية وبين دول الحزام الإسلامي المحيط بالوطن العربي وبخاصة تركيا وإيران، فالهوية الدينية الواحدة والتاريخ الطويل المشترك يرفعان سقف هذه التوقعات.
وتقف تركيا اليوم مثالا للفصل بين الاقتصادي والسياسي في علاقاتها مع دولة الاحتلال.
وتحدد وزارة الخارجية التركية على موقعها الالكتروني السقف السياسي الذي يحكم دعمها لفلسطين، ف"تركيا تؤيد تسوية متفاوضا عليها للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني على أساس قرارات مجلس أمن الأمم المتحدة أرقام 242 و 338 و1397 و1515، ومبدأ الأرض مقابل السلام، ومبادرة السلام العربية، وخريطة الطريق (التي اعتمدتها الرباعية الدولية) التي ستضمن قيام دولتين تعيشان جنبا إلى جنب ضمن حدود آمنة ومعترف بها".
وتحدد كذلك السقف الاقتصادي الذي يحكم دعمها لفلسطين، ف"تركيا تعتقد بأن عملية السلام يمكن أن تكون ناجحة فقط إذا استكملت ببعد اقتصادي" ، لذا فإنها تعتقد أيضا بأنه "لا بد من تحسين الحياة اليومية للفلسطينيين" و"ينبغي تأسيس بنية تحتية اجتماعية - اقتصادية قابلة للحياة ومستدامة"، تحت الاحتلال طبعا.
وتسجل الخارجية التركية بأن "مجموع المساعدات" التركية المباشرة وغير المباشرة لفلسطين منذ عام 1995 يزيد على (300) مليون دولار أميركي، علما أن تركيا تحتل المرتبة الثانية بعد دولة الاحتلال كمصدر للواردات الفلسطينية التي ربما تزيد عائدات تركيا منها خلال بضع سنوات على أضعاف مساعداتها المتواضعة للشعب الفلسطيني خلال عشرين سنة.
ولم يرد أي ذكر لكلمة "الاحتلال" في هذه الخلاصة "الرسمية" للعلاقات التركية مع "دولة فلسطين".
ولأن هذا هو ذات السقف السياسي والاقتصادي لكل الشركاء العرب والأجانب في ما سمي "عملية السلام" التي انطلقت في مؤتمر مدريد عام 1991، فإن التوقعات الفلسطينية تنتظر من أنقرة أن تعيد النظر في هذه الاستراتيجية التي من المفترض أن تكون قد انهارت مع فشل "عملية السلام" التي بنيت على أساسها.
وطالما تعد فلسطين وقفا إسلاميا وقضيتها تعد قضية إسلامية بقدر ما هي عربية ووطنية فلسطينية فإنه لم يعد جائزا التذرع بحجة أن تركيا لا يمكنها أن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين لتسويغ استمرارها في هذه الاستراتيجية التي تجد في الدعم الفلسطيني الرسمي مسوغا لها.
فعلى سبيل المثال وصف سفير فلسطين في أنقرة فايد مصطفى في مقابلة صحفية منتصف الشهر الماضي تركيا بأنها "شريك استراتيجي" لفلسطين "في كل النواحي" !
وفي هذا السياق يستحيل تجنب المقارنة بين مواقف دول إسلامية كإيران أو باكستان أو اندونيسيا من دولة الاحتلال الإسرائيلي وبين الموقف التركي المعترف بالاحتلال ودولته والمثقل بالتزامات حلف الناتو والتحالف مع الولايات المتحدة والمسعى الحثيث للانضمام الى الاتحاد الأوروبي.
فهذه الاستراتيجية التي تفصل بين السياسي وبين الاقتصادي في التعامل مع دولة الاحتلال قد تبتلعها التوقعات الفلسطينية على مضض كالبالع سكينا من دول صديقة تاريخيا للشعب الفلسطيني كالصين والهند، لكنها لا تستطيع ابتلاعها من دولة إسلامية كتركيا، في الأقل لأن هذه الاستراتيجية لا تختلف في جوهرها عن استراتيجية الراعي الأميركي لدولة الاحتلال التي تعلن نظريا دعمها ل"حل الدولتين" ومعارضتها اللفظية ل"الاستعمار الاستيطاني" للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 لكنها تستمر في تمكين دولة الاحتلال عسكريا واقتصاديا لمواصلة الاحتلال والتفوق على مجموع محيطها العربي والإسلامي.
ولا يغير كثيرا في جوهر هذه الاستراتيجية التمايز التكتيكي الواضح بين الموقفين التركي والأميركي، فعلى سبيل المثال بينما تعترف تركيا بدولة فلسطين فإن الولايات المتحدة لا تعترف بها، وبينما تدلي تركيا بصوتها لصالح فلسطين في الأمم المتحدة فإن واشنطن تستخدم حقها في النقض "الفيتو" ضد أي قرارات لصالح فلسطين في مجلس الأمن الدولي وتعارض أية قرارات مماثلة في الجمعية العامة.
تاريخيا، أدلت تركيا بصوتها ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بقسيم فلسطين عام 1947، لكنها أصبحت أول دولة مسلمة تعترف بدولة الاحتلال بعد أن وقع الأردن ومصر اتفاقيات الهدنة معها عام 1949، وبعد العدوان البريطاني - الفرنسي الذي شاركت فيه دولة الاحتلال على مصر عام 1956 خفضت أنقرة التمثيل الدبلوماسي معها إلى مستوى قائم بالأعمال حتى سنة 1991، فبعد ستة أسابيع من انعقاد مؤتمر مدريد للسلام أعادت أنقرة تبادلها الدبلوماسي إلى مستوى سفير لكنها أردفت ذلك برفع مماثل لمستوى تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية، وكانت تركيا أول بلد يقيم علاقات مع دولة الاحتلال يعترف بدولة فلسطين بعد "إعلان الاستقلال" الفلسطيني من الجزائر عام 1988.
ويتضح من هذه العجالة التاريخية أن الموقف الرسمي التركي من دولة الاحتلال لم يتغير جوهريا مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم وهو موقف كان وما زال يتكيف لينسجم مع الموقف العربي المهادن أو المسالم لها، لكنه موقف كان وما زال ينأى بنفسه عن مواقف الدول العربية التي كانت أو ما زالت في حالة حرب معها، لا بل إن هذا الموقف يوظف تركيا اليوم في خدمة الحرب الفعلية والاقتصادية والسياسية والإعلامية التي تقودها دولة الاحتلال بواجهة أميركية - أوروبية ووجه عربي خليجي ضد المعسكر المقاوم لدولة الاحتلال والهيمنة الأميركية على المنطقة من أجل تحقيق أطماع "عثمانية" اقليمية في العراق وسوريا بخاصة.
إن المساهمة التركية في تدمير العراق وسوريا هي مساهمة في تقويض العمق العربي الاستراتيجي لأي مقاومة فلسطينية ناجعة للاحتلال ودولته، ولا يستقيم الادعاء التركي بدعم الشعب الفلسطيني مع العداء التركي الصريح اليوم لسوريا والعراق ومصر وهي الدول التي تمثل العمق الاستراتيجي لهذا الشعب شمالا وشرقا وجنوبا.
لقد اعترفت تركيا بحركة المقاومة الإسلامية "حماس" عام 2008، وانتهجت منذ ذلك الحين سياسة متوازنة بين طرفي الانقسام الفلسطيني تدعو إلى المصالحة الوطنية.
وهي تخلط واعية بين دعمها لحركة حماس في قطاع غزة انطلاقا من الرابطة الأخوية المشتركة في جماعة الإخوان المسلمين وبين دعم تركي إعلامي لرفع الحصار عن القطاع وليس للمقاومة الفلسطينية فيه، إذ لم يسجل أبدا حتى الآن أي دعم تركي تسليحي أو تدريبي للمقاومة الفلسطينية، ويتركز الدعم التركي لحماس على إعادة إعمار المساجد التي دمرها العدوان الإسرائيلي المتسلسل وعلى تدريس الآلاف من أبناء القطاع في المعاهد الدينية التركية.
في الثلاثاء 08 ديسمبر-كانون الأول 2015 02:03:34 ص