|
وإذ أدركت أن الرجل كان يتمتع بذاكرة جبارة، حرص من جانبه على انعاشها وتنميتها بكل السبل، فلك أن تتصور الكم الهائل من المعلومات والأخبار والأسرار الذى اختزنه خلال رحلته الصحفية. وهو كم شمل أطرف القصص وأخطرها التى تغطى تاريخ مصر والعالم العربى منذ العهد الملكى وحتى يومنا هذا. لذلك أفهم لماذا لم يكتب الأستاذ هيكل مذكراته، وظل يوظف بعض وليس كل معلوماته فى كتاباته وتحليلاته. أما المذكرات فقد ظل يروى بعضها لدوائره المحيطة. وغالبا ما كان يقول شيئا ويحجب أشياء لحسابات خاصة به. لذلك أزعم أن أقرب المقربين إليه لم يكونوا على إحاطة كافية بما لديه من معلومات. ومخطئ من يظن من خاصته أو تلاميذه أنه سبر أغواره أو قرأه قراءة وافية. ومن خبرتى معه فكل من اقترب منه رأى بعضه واستعصى عليه أن يدركه كله.
لا يستطيع المرء أن يغلق فهمه من الدهشة حين يستعيد شريط المعلومات التى كانت تخرج منه أثناء أحاديثه. من الإمام أحمد حين كان حاكما لليمن حين التقاه وكان أول سؤال سمعه منه كان عن صحة شائعة زواج عمر الشريف من فاتن حمامة، وصولا إلى قصة الرئيس الفرنسى فرانسوا ميتران الذى اطلع الأستاذ وزوجته على شريط مسجل ومصور لأحد القادة العرب وهو يتسلم رشوة فى بارس، مرورا بحكاية عملاء الموساد الذين حصلوا على عينة من بول الرئيس حافظ الأسد أثناء زيارته لعمان للعزاء فى وفاة الملك حسين، وكم ثروة الخطابات التى أرسلها جمال عبدالناصر إلى المشير عبدالحكيم عامر أثناء إدارته للإقليم الشمالى فى دمشق، (أحدها كان فى ١٢ صفحة كتبها عبدالناصر بخط يده)وكان الأستاذ قد زار المشير فى بيته لرأب الصدع بينه وبين عبدالناصر، وأثناء الحديث أشار المشير إلى كومة الخطابات قائلا إن ما فيها يثبت عن عبدالناصر تغيير تجاهه. فما كان من الأستاذ إلا أن أستأذنه فى الإطلاع عليها، وحملها معه ثم ضمها إلى خزانته التى تضم كنوزا من الوثائق التى تروى مختلف أسرار تلك المرحلة
إلى جانب مخزون ذكرياته فإن أوراقه التى لا تعوض أودعها خارج مصر أثناء صراعه المكتوم مع السادات الذى حاول الإيقاع به بطرق عدة تراوحت بين التنصت عليه فى بيته والتدقيق فى سجله الضريبى. وسمعت منه ان جامعة «ييل» الأمريكية عرضت عليه شراء أوراقه تلك بعدة ملايين من الدولارات، إلا أنه اعتذر عن عدم قبول العرض.
هذا الذى ذكرته ومثله الكثير الذى سمعته منه بعد خروجه من الأهرام سنة ١٩٧٤، أى طوال ٤٥ عاما أتيح لى خلالها ان اقترب منه أكثر، ذلك كله يعد قطرة فى بحره الذى لا شطآن له ولا أعماق. فى هذا الصدد أزعم أن اقترابى من «الجورنالجى» كان أكثر وأقوى أثرا. وربما كانت تلك هى المساحة التى تلاشت فيها التباينات واختلاف الرؤى بين الأستاذ وتلميذه. ذلك أن الذى يتعامل مع «الجورنالجى» فيه يتعلم الكثير من خلال النموذج الذى يقدمه والحرفة التى أتقنها والأخلاق التى تمتع بها. فقد كان أستاذنا فى كل ذلك. لم يكن يلقى تعليمات أو نصائح. ولكنه كان يجمع المعلومات كأى محرر ويصوغ الخبر بنفسه ويحرر العناوين، ويعلم من حوله بأدائه الرفيع واعتزازه بمهنته واحترامه لذاته ولمصدره.
فى صيف العام الماضى حين زرته فى منتجع «الرواد» على السالح الشمالى، كان قادما لتوه من الخارج بعد ان قام بما وصفه بأنها آخر إطلالة له على أوروبا، بدا حزينا ومتشائما لأن الأمور فى مصر سارت على نحو خالف توقعاته، وقال لى انه لن يتكلم وانه يخطط لرحلة إلى إسبانيا يصحب فيها شريكة حياته السيدة هدايت وأولاده وأحفاده، لأنه يريد ان يبتعد من ناحية وأن يطلع احفاده على حضارة الأمة التى ينتمون إليها. إلا أنه بعد عودته ورغم أنه لم يكن قد تعافى تماما، ظهر على التليفزيون فى لقاء مع الإعلامية لميس الحديدى. وبدأ حديثه مسكونا بالحيرة والحزن، ومما قاله إن مصر ليس لديها بوصلة واضحة وإن تلك مشكلة خطيرة جدا. وإذا لم تنتبه إلى ذلك فإنها ستصبح مرشحة للخروج من التاريخ، وإن مجمل البيانات المطروحة لا يكفى لإقناع الناس بأن هناك مستقبلا مرضيا ومقبولا. أدركت أنه أراد أن يرضى قبل رحيله.
فكتبت آنذاك فى مقال الثلاثاء ٢٩/١٢ انه تناول موضوعات حساسة بصراحة ودبلوماسية، وتوقعت أن يكون حديثه الأخير فى محاولة الإجابة عن السؤال: مصر أين وإلى أين. وفى لقاء لاحق قال لى إن مسئولا التقاه بعد بث الحلقة، فقال له إن هذا الكلام لم يكن منتظرا منك، فرد عليه قائلا: إذا لم أقله أنا فلن يقوله أحد.
رحمه الله وغفر له وألهم زوجته وأبناءه وأسرته صبرا من عنده.
عن الشروق المصرية..
في السبت 20 فبراير-شباط 2016 12:07:57 ص