|
في العام 1988، كتب الصديق العزيز الدكتور فوزي منصور "خروج العرب من التاريخ". يشير الدكتور فوزي إلى أنه عندما عاد إلى كتابه عام 1990، لقراءة ما كتب، فوجئ بأن ما كتبه كان في الحقيقة محاولة غير مقصودة لتقصي المراحل المتتابعة لخروج الأمة العربية من التاريخ أكثر مما هو محاولة لتفسير هذا الوجه أو ذاك من أوجه الواقع العربي المعاصر: "دور العامل القومي"، "طبيعة الدولة في أقطار الوطن العربي"، "غيبة الديمقراطية عنه"، أو غير ذلك.
ويعزو الباحث المهم السرعة الزائدة لمغادرة العرب ساحة التاريخ إلى استمرار العرب في الخضوع لأنظمة حكم قد تتعدد صورها وأشكالها وادعاءات الشرعية التي تستند إليها، وهي في الحقيقة تنتمي إلى سحيق العصور الغابرة، ومَثّل عجز العرب عن أن يشهروا في وجه حاكميهم في كل مكان، قسم أحمد عرابي العظيم: "والله الذي نفسي بيده، إننا لسنا عبيد أحد ولن نُتوارث بعد اليوم"، ومثّل تحول الرابطة القومية لديهم من عامل عزوة ومنعة إلى عامل فرقة واصطفاف.
يضع فوزي مبضعه في عمق الجرح العربي النازف منذ بروز قضية الاحتلال الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، كما يتطرق إلى العداء الغربي للعرب الذي تغذيه الرأسمالية والإمبريالية لنهب ثروات العرب، ويركز بشكل دقيق على الحالة العربية المأساوية، ويعطي الأولوية لمواجهة أفعالنا وقيمنا وأنماط سلوكنا وتفكيرنا، حكامًا وسواحًا وشعوبًا.
منذ ثلاثينيات القرن العشرين الماضي، بدأت وكالات الهجرة اليهودية (عليا) تتقاطر على فلسطين- الأرض الموعودة حينها. السبع الدول القائمة إما مستعمرة أو خاضعة لتحالفات وحمايات الاستعمار البريطاني أو الفرنسي، وتحكمها قوى تقليدية اجتمعت في "إنشاص" بدعوة من فاروق في العام 1946، مطالبين بمساعدة الشعوب العربية على نيل استقلالها، وضرورة الوقوف أمام الصهيونية باعتبارها خطرًا لا يدهم فلسطين وحسب، وإنما جميع البلدان العربية والإسلامية، كما دعوا إلى وقف الهجرة اليهودية، والعمل على تحقيق استقلال فلسطين، واعتبار أي سياسة عدوانية ضد فلسطين تأخذ بها حكومتا أمريكا وبريطانيا هي سياسة عدوانية تجاه كافة دول الجامعة العربية.
عندما نقرأ أول ما خرج به أول مؤتمر للجامعة العربية وللسبع الدول المؤسسة للجامعة العربية؛ وهي دول تابعة وشبه مستعمرة- ندرك مدى الانحدار الذي وصلت إليه الأمة العربية، ونستشعر خطورة الخروج من التاريخ؛ وأن يستشعر هؤلاء الحكام خطورة عدوانية أمريكا وبريطانيا، فمفارقة كبيرة.
بمقارنة بين موقف الرجعيات العربية السبع المشار إليها عام 1946، وأحفادهم، تميل الكفة لصالح الأولى لامتلاكها قدرًا من اللياقة والحياء، عكس موقف الأحفاد شديد القحة والسفة، ومقارنة صراعات الطوائف في الأندلس التي يتقصاها ابن خلدون وصراعات عرب القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين
يرى المفكر فوزي أن للأمر علاقة بالعجز العربي أمام المشروع الإمبريالي الصهيوني للمنطقة، وقد لا يكون تعبير العجز دقيقًا؛ فقد يكون في المراحل الأولى فقدان إرادة، أما اليوم فقد ارتهن الحكام غالبيتهم لهذا المشروع، وأصبحوا أسرى حمايته لهم من شعوبهم، خصوصًا بعد ثورة الربيع العربي، كما يقرؤها أيضًا في تبدد الأوهام المتعلقة بالحقبة النفطية، وتزايد الوعي بالانحطاط الاقتصادي والاجتماعي والقيمي الذي جلبته الثروات الهائلة، وتفاقم حالة التبيعة للعالم الخارجي، واضمحلال حركات التحرر الوطني والتوحيد القومي، ومنها الكابوس اللبناني، والاعتقاد الراسخ بأن العراق وإيران وقعا كلاهما بغباء تاريخي فريد في مصيدة حرب آثمة دبر لها الغير وأحكم خدمة الأهداف، وهي بالطبع ليست أهداف العراق ولا إيران ولا أهداف العالم العربي ولا أهداف العالم الإسلامي الذي يدعي كل من الطرفين بدوره أنه يمثله، ويعود بالأمر إلى تداعي شرعية النظم الحاكمة، وتزايد الإحباط لغياب الحكم الديمقراطي، والتغاضي عن حقوق الإنسان الأساسية، والخوف من أن يؤدي التعصب والسلفية إلى إعاقة أي مشروع للنهوض القومي، والتعجيل بتقسيم الوطن العربي إلى دويلات عرقية ودينية، وفقًا لمخطط الإمبريالية والصهيونية.
كتاب المفكر فوزي إسهامٌ عميق في قراءة مأساة خروج العرب من التاريخ، وشكلت مساهمة المفكر العربي الكبير سمير أمين، صاحب نظرية المركز والأطراف إضافةً كبيرة للمبحث المهم، وإذا ما استثنينا مصر، فإن الدولة القطرية التي تشكلت عقب الحربين الكونيتين ظلت جذورها وروابطها عميقة بالقبيلة والطائفية وبكل مكونات ما قبل عصر الدولة، وأحزابنا القومية التي ثارت ضد هذه الأنظمة والمكونات لم تستطع الخروج من مستنقع القطرية، ولم تتطهر من أدران وعلل العشائرية والطوائفية.
عالِم الاجتماع ابن خلدون، قبل ثماني مئة عام، وفي كتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر" يعقد فصلًا في "أن الأوطان الكثيرة العصائب قل أن تستحكم فيها دولة"؛ وهو ما ينطبق أكثر على اليمن. كما يذكر أن أهل الأندلس لما انقرضت الدولة العربية منه وملكهم البربر من لمتونة والموحدين سئموا مَلْكَتهم، وثقلت وطأتهم عليهم؛ فأشربت القلوب بغضاءهم، وأمكن الموحدون والسادة في آخر الدولة كثيرًا من الحصون للطاغية. يعلق المحقق الدكتور علي عبدالواحد وافي: "كان العرب في الأندلس يطلقون لقب الطاغية على ملوك الفرنجة في البرتغال وقشتالة الذين اشتبكوا معهم في حروب"، ويضيف: "إن الموحدين لشعورهم بكراهية الشعب لهم لجَؤُوا إلى ملوك الفرنجة، يستعينون بهم في تملّك مراكش في نظير تنازلهم لهم عن كثير من الحصون بالأندلس؛ فما أشبه الليلة بالبارحة!".
بمقارنة بين موقف الرجعيات العربية السبع المشار إليها عام 1946، وأحفادهم، تميل الكفة لصالح الأولى لامتلاكها قدرًا من اللياقة والحياء، عكس موقف الأحفاد شديد القحة والسفة، ومقارنة صراعات الطوائف في الأندلس التي يتقصاها ابن خلدون وصراعات عرب القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين تظهر أن صراعاتنا أكثر ضراوة وخطرًا؛ فالعداء ضد الأمة العربية وشعوبها يفتح الأبواب واسعة أمام قطار صفقة القرن، ويقدم فلسطين والقدس كوطن وعاصمة موحدة لإسرائيل، ويتحول الصراع ضد الاستعمار الاستيطاني لفلسطين كما تصوره الأمراء العرب عام 1946، إلى صديق وحماية لبعض الأنظمة العربية ضدًّا على إرادة شعوبها وأمتها، ويتحول الصراع الغبي بين إيران والعرب -المكيدة الاستعمارية كقراءة المفكر الكبير فوزي منصور- إلى صراع وجود، ويتحول الصراع العربي العربي إلى صراع حياة وموت، يمكن الاستعانة بإسرائيل أو أمريكا أو تركيا أو إيران لمواجهته؛ وهو إرث قبلي وبيل عرفته الدولة العربية قديمًا حديثًا.
المصدر / موقع خيوط
في الثلاثاء 09 مارس - آذار 2021 05:26:26 م