الانتفاضة اللبنانية ومستقبل الربيع العربي
عبدالباري طاهر
عبدالباري طاهر
 

قبل بضعة أشهر، وتحديدًا في ١٧ أكتوبر ٢٠١٩، انبجست احتجاجات شعبية سلمية في لبنان تطالب بتغيير ورحيل النظام الطائفي كله. تشارك في المظاهرات ألوان الطيف المجتمعي اللبناني. كسر اللبنانيون المنتفضون الحدود الطائفية والسدود الحزبية والمناطقية، ورددوا بصوت واحد: ''كلِّن يعني كلِّن''. لم يستطع القمع ولا عنف الأمن و"زعرنة" مليشيات الطوائف وفتوات الأحزاب الوقوف في وجه المنتفضين من مختلف الفئات والشرائح ومن جُل مدن وقرى لبنان. وقف اللبنانيون صفًا واحدًا مطالبين برحيل الحكم الطائفي وزعماء الطوائف. انتفض اللبنانيون ضد ثمانية عقود من الحكم الطائفي الموروث من العهد الاستعماري الفرنسي المكرس في دستور ١٩٢٦، منذ الاستقلال ١٩٤١.

اتخذت الطائفية في لبنان الصيغة العلنية، وأقيم التقاسم على الأساس الطائفي: رأس الحكم للموارنة، ورئاسة الوزراء للسنة، والمجلس النيابي للشيعة. وكان النظام ذو الصيغة الديمقراطية مع هامش للحريات الصحفية أرحم بما لا يقاس من الطائفية المستترة أو القبلية والعشائرية والأسرية في العديد من البلدان العربية. 

في خمسينيات وستينيات القرن العشرين الماضي وحتى السبعينيات، كانت لبنان الملاذ للاجئين والمعارضين السياسيين من مختلف البلدان العربية، وكانت صحافتها الحرة رئة نقية لحرية الرأي والتعبير، وبالأخص "النهار" وملحقها الأدبي، ومجلة "شعر" التي تبنت التجديد الشعري والنقد الحديث، وفيها عشرات الصحف والمجلات ذات الاتجاهات الفكرية والسياسية المختلفة. 

البلد القريب من القارات الثلاث، الصغير مساحةً والقليل سكانًا، كبير في وزنه ومكانته وتأثيره ودور أبنائه. يعد لبنان، البلد الصغير، بوابة عبور إلى الشرق العربي، وهو جزء من سوريا، ولهُ حضور كبير في التاريخ العالمي القديم. نشر عبادة أدونيس، ونشر المسيحية في الغرب، وله الريادة في الفنون والآداب والصحافة.

أسقطت الانتفاضة ورقة التوت عن سوءة فساد النظام الطائفي وكوارثه التي تبدأ ولا تنتهي. فطوال ثمانية عقود كان همّها الحفاظ على الطبيعة الطائفية العشائرية للحكم، والتصارع على النفوذ وكسب المال والولاء للخارج. حلت أمريكا محل فرنسا في فرض النفوذ، وتسببت في حرب ١٩٥٤، التي دامت عدة أشهر.

كان لبنان -ولا يزال- ميدان الصراع العربي-الإسرائيلي، والعربي-العربي، وحاليًا العربي-الإيراني، واللبناني-اللبناني. استقبل النازحين من الفلسطينيين بعد هزيمة ٤٨، وبعد نزوحهم من الأردن بعد أحداث أيلول الأسود ١٩٧٠، ومثّل -ولايزال- خط المواجهة مع العدو الإسرائيلي.

خطأ الطائفية الكبرى، مارونية كانت أو سنية أو شيعية، هو توجيه السلاح للداخل اللبناني، ويتحمل حزب الله حاليًّا كبر التحالف مع التيار الوطني الحر ''الماروني''، في تسيّد وحماية النظام الطائفي، وامتشاق السلاح ضد الداخل اللبناني. 

نجاح انتفاضة لبنان لها نفس أهمية انتصار الربيع في تونس؛ فتأثير لبنان على المشرق العربي قوي، وللانتفاضة اللبنانية تأثير قوي ومباشر على سوريا وفلسطين المحتلة أولًا، وعلى المحيط العربي في الأردن والعراق والجزيرة والخليج وحتى اليمن ثانيًا

ميزة الانتفاضة اللبنانية أنها موجهة ضد النظام بقضه وقضيضه، وضد كل صيغه الموروثة من الاستعمار الفرنسي أو المجددة في الطائف.

وصل النظام الطائفي ذروة الفساد والاستبداد والتصارع المقيت حد العجز عن الاستمرار في الحكم أو التعايش، وتسبب في كوارث إيصال البلد المزدهر بأنهاره وأرضه الخصبة وقدراته في التجارة والحرف وطاقات ومواهب أبنائه، حد المجاعة وانهيار العملة والفساد والتسيب والإهمال، حد تفجير مرفأ بيروت، وتدمير أجزاء واسعة من بيروت، ومقتل أكثر من مائتي شخص، وغرق لبنان في الأزمة الاقتصادية، ومؤشرات الانهيار الشامل وصول العملة الى فقدان القيمة.

الانتفاضة الحالية تدخل أسبوعها الثاني، بينما النظام الطائفي مهجوس بالتنازع على اقتسام الوزراء في الوقت الذي تطالب فيه الإرادة الشعبية المحتجة، بحكومة انتقالية من خارج الزعامات الطوائفية وأحزابها ورموزها.

يجري ما يشبه السباق بين الاحتجاجات في الجزائر والاحتجاجات في لبنان، أيهما يحسم الأمر قبلًا.

في نهاية العام ٢٠١٠، انتفض الشعب التونسي، وخلال أسابيع أطاح بالنظام ورمزه بن علي، ولا تزال تونس تواجه أحزاب الحكم التي خلفت حكم بن علي، ولكن الانتفاضة ما تزال فاعلة ومؤثرة.

الانتفاضة اللبنانية تواجه نظامًا طائفيًّا متعدد الرؤوس، وقد شاخ ولم يعد قادرًا على الاستمرار في الحكم بسبب فساده وتصارعه، ولكن غياب التنظيم والقيادة عامل ضعيف في الاحتجاج. 

نجاح انتفاضة لبنان لها نفس أهمية انتصار الربيع في تونس؛ فتأثير لبنان على المشرق العربي قوي، وللانتفاضة اللبنانية تأثير قوي ومباشر على سوريا وفلسطين المحتلة أولًا، وعلى المحيط العربي في الأردن والعراق والجزيرة والخليج وحتى اليمن ثانيًا. فالبنية العربية في المشرق العربي مترابطة ومتداخلة، فكما أثر انتصار الربيع في تونس، يتوقع تأثير انتصار ربيع لبنان على أنظمة الفساد في المشرق العربي.

الربيع اللبناني رافد مهم للانتفاضة المتصاعدة في الجزائر، والعكس صحيح، وكلاهما يزكي الحراك في السودان وليبيا والعراق، ويفضح سوءة النظم الطائفية والسلالية والأسرية في المنطقة العربية كلها، ويفضح الأنظمة التابعة والمطبّعة والمتواطئة مع الأمريكان، ويدمغ قوى الحرب.

الربيع الآتي هو وعد الأمة العربية كلها، وبزوغه في تونس أولًا وفي لبنان حاليًّا دلالته مهمة؛ فتونس هي البلد العربي الذي نال استقلاله سلميًّا، وكانت العلمنة والتحديث فيه قوية وشاملة، وقربه من أوروبا ومن الثورة الفرنسية زكّى العلمنة والتحديث، كما أن الاتحاد العام التونسي للشغل يضم معظم النقابات ومؤسسات المجتمع المدني.

أما الموطن الثاني للربيع العربي حاليًّا لبنان، فهو مركز من أهم مراكز التمدن والتحضر والحداثة، وهي من الأسس المتينة للانتفاضة التي يشعلها فساد الحكم واستبداده.

وكالات الأنباء تقدر نزول مليوني محتج (ثلث السكان) في بَدْء الانتفاضة، وتعاملت معها السلطة وكأن شيئًا لمن يكن. 

الأزمة الاقتصادية، وانهيار العملة، وتردي الأوضاع حد المجاعة، ومخاطر كورونا، وضراوة عنف الجيش والأمن وحزب الله، إضافة إلى الوضع الدولي، كلها عوائق أمام الاحتجاج اللبناني، ولكن استمرار الانتفاضة وتصاعدها هو التعبير عن الإرادة الشعبية الظافرة.

 

المصدر/ موقع خيوط


في السبت 20 مارس - آذار 2021 05:23:13 م

تجد هذا المقال في المركز اليمني للإعلام
http://yemen-media.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://yemen-media.com/articles.php?id=554