تتذكر "سعاد السلفي" تطلعات زوجها المرحوم المعلم "غيلان" الذي طالما عاد إلى المنزل ويداه مغبرتان بالطباشير على مدى عشرين عاماً، كللّ جهده خلالها لخدمة هذا القطاع، وكان جُل حديثه عن التعليم وأهميته، وقصص أحلامٍ ينسجها لمستقبلٍ يرى فيه أولاده يتصدرون قوائم المتفوقين في تخصصات نوعية طبية وهندسية.
تلك عيون الأحلام التي نَقَضَ الزمن غَزْلَ قصصها الجميلة وأحاديثها الطموحة، بعد وفاة رب الأسرة التربوي "غيلان" الذي اختطفه الموت قبل نحو سبع سنوات، عانت أسرته بعد رحيله الأمرين من الفقر والمرض وحياة البؤس والشقاء.
وأضحت عيون الحقيقة هي التي ترى بها "سعاد" أولادها الستة، يتهاوى تعليمهم في سبع سنوات عجاف؛ شهدت خلالها البلاد حرباً ضروساً انعكست بآثارها السلبية على كافة القطاعات، وأهمها القطاع التعليمي.
يعيش في كنف الأسرة ستة أولاد (أربعة أبناء، وبنتان) ووالدتهم، وتقطن حالياً في منطقة الحتارش (إحدى قرى مديرية بني الحارث ـ صنعاء)..
على وقع مرارة الأزمة، ومرارة استعادة شريط الذكريات، تعيش الأسرة ألمها، بعد أن كان التعليم أهم أولوياتها، يرى فيه رب الأسرة طريقاً وحيداً لتسلك أسرته نحو المجد والبناء، وما أنفك في توصية أبنائه بعدم الحيد عنه للوصول إلى القمة، وخدمة المجتمع، مهما كانت العقبات، لكنه غادر الحياة قبل أشهر من الحرب التي كانت كفيلة بوفاة الكثير من الأحلام، وعلى مقربة من لفظ التعليم أنفاسه، إن استمر الحال على ما هو عليه.
أفنان (16 عاماً) لم تصمد في الأزمة سوى عاماً واحداً لتترك تعليمها في الصف الرابع الأساسي، وكانت في تميزها تتصدر المرتبة الأولى، لا يزال معلموها يتذكرونها ويتألمون لتركها للتعليم.
حسام (14 عاماً) هو الآخر ترك تعليمه في الصف الخامس الأساسي لينضم إلى عمالة الأطفال بحثاً عن ما يساهم به في سد رمق جوع أسرته، وينضم إليهما سهيل (13 عاماً) الذي غادر تعليمه بعد انتهائه من الصف الثالث الأساسي.
في مدرسة أبو هريرة بمنطقة الحتارش، يتبقى فقط من أبناء الأسرة في مسار التعليم (شايف 12 عاماً ـ نايف 10 أعوام) كلاهما في الصف الثاني الأساسي، مهددان بترك تعليمهما لسببين، الأول عدم قدرتهما على دفع الرسوم الدراسية لوضع الأسرة المعيشي المتدهور؛ والتي ترزح تحت وطأة الفقر ويكابد أبناؤها المرض والمعاناة، والثاني مستوى التعليم الذي لا يحفز ولا يشجع للإقبال عليه؛ بسبب الغياب المتكرر للمعلمين، وعدم توفر الكتب الدراسية، والازدحام الكبير داخل الصفوف الدراسية.. أما نغم (8 سنوات) فقد حرمها فقر الأسرة المعيشي من أن تنال حقها في التعليم كباقي الأطفال، وقد يكتب القدر أن تعيش أمية الحرف والقراءة والكتابة في القرن الحادي والعشرين، حيث تتسابق فيه الأمم على تطوير التقنية والاختراعات الحديثة وتطويعها لخدمة الإنسان.
وعلى الرغم من صغر سنها إلا أن لحديثها أنغام كاسمها، ولقصص معاناتها مشاهد مؤلمة تترجمها عبراتها التي تستدير على خدودها بحرارة شديدة حينما يكون الحديث عن أطفال حيّها الذين تشاهدهم وهم يرتدون زيهم المدرسي ذهاباً وإياباً إلى المدرسة ويعيشون مرح الطفولة وبراءتها الجميلة.
يتقطع حديث نغم ويتخلله الصمت بين الحين والآخر، وتنظر بوجوم، ملتمعة العينين، تتأوه أنفاسها الحزينة بين شهيق وزفير، يطرق في أذنيّ السامع صخب زفير أنفاسها التي تبعث على البكاء، وكأن لسان حالها يحاكي الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو الذي قال "الرجل من صنع المرأة فإذا أردتم رجالاً عظاماً أفاضل فعليكم بالمرأة علمّوها جيداً".. قائلة بلهجتها البسيطة ما مفاده "ليتي أحصل على فرصتي في التعليم، فإن كان الأطفال يستذكرون دروسهم في النهار أو الليل، فسأضيف إلى ذلك، استذكاري لدروسي في منامي"..
رغبة جامحة في التعليم يكبت تطلعاتها الزمن القاسي الذي خلفه الحرب.
وهؤلاء الأطفال وغيرهم الملايين من أطفال اليمن يعيشون الحرمان، بعد مرور نحو أكثر من ثلاثين عاماً على المصادقة على اتفاقية حقوق الطفل، التي أصبحت بعيدة المنال عنهم، الأمر الذي يجعلهم عرضة لمخاطر لا حصر لها من الاستغلال وسوء المعاملة وانتهاكات لحقوق أخرى.
ويشهد التعليم في اليمن تدنياً مستمراً، ودماراً واسعاً في البنية التحتية التعليمية، وفي النظام التعليمي، وتسرب ملايين الأطفال من المدارس، وحرمانهم من حقهم في التعليم.
وقبل اندلاع الحرب في اليمن، أفادت منظمة الأمم المتحدة (اليونسكو)، في تقرير لها في يونيو 2013، أن اليمن تعد الدولة الأولى في العالم بالنسبة للتسرب من التعليم.
الأمر اختلف كثيراً نحو الأسوأ مع اندلاع الحرب، وزيادة رقعة الفقر، والتدهور الاقتصادي، ولجوء الأطفال إلى سوق العمل غير المنظم حيث تزداد فيه الانتهاكات بحق الطفولة، وتخلق جيلاً مشوهاً في منظومته القيمية، مليء بالعقد والاضطرابات النفسية.
وكانت منظمة اليونيسف أشارت في بيان نشرته على موقعها في 2019، إلى وجود مليوني طفل خارج المدرسة، بما في ذلك ما يقارب من نصف مليون تسربوا منذ تصاعد النزاع في مارس 2015م، فضلاً عن 3.7 مليون طفل آخرين معرضون لخطر خسارتهم للتعليم.
وبينت أن الصراع والتخلف والفقر حرم ملايين الأطفال من حقهم في التعليم، ومن أملهم في مستقبل أكثر إشراقاً.
ولفت البيان إلى أن النزاع الدائر في البلاد، وتأخر عجلة التنمية والفقر تسبب كل ذلك في حرمان ملايين الأطفال في اليمن من حقهم في التعليم، وحرمانهم من أملهم في مستقبل أفضل، كما يتسبب العنف والنزوح والهجمات التي تتعرض لها المدارس في الحيلولة دون وصول العديد من الأطفال إلى المدارس، ومع استمرار عدم دفع رواتب المعلمين لأكثر من عامين، فإن جودة التعليم أصبحت أيضاً على المحك.
وتشير إحصائية سابقة للمنظمة ذاتها إلى أن هناك مليون ونصف طفل كانوا خارج المدارس قبل الحرب في اليمن، معتبرة أن قطاع التعليم باليمن بات على حافة الانهيار.
ومع اقتراب توجه الطلاب إلى اختبارات نهاية العام الدراسي 2021 ـ 2022م، فإن نسبة التسرب استمرت حتى اليوم، يقول الأستاذ أحمد ناصر محمد، "موجه تربوي"، إن هذه الإشكالية باتت من أخطر الإشكاليات التربوية التي تهدد العملية التعليمية والتي سيكون لها تداعياتها مستقبلاً.. مبيناً أن عدداً كبيراً من المدارس تشكو تسرب الطلاب والطالبات بشكل لافت حتى بعد التحاقهم بالمدارس، وخصوصاً الطلاب والطالبات الذين يلتحقون بالمدارس الحكومية.
بدوره أشار الأستاذ إبراهيم ثابت (ماجستير تربية) إلى أن التسرب في مرحلة التعليم الأساسي هو أهم مصدر يغذي الأمية في اليمن.. لافتاً إلى أن الأسباب متعددة، وهو ما جعل اليمن من أكثر البلدان معاناة من هذه المشكلة، البعض منها يعود إلى المنظومة التعليمية بأكملها إدارات ومعلمين وخطط تربوية ومناهج وطرق تدريس، إلا أنها في الوقت الراهن تندرج في إطار تداعيات الحرب والتي كان لها الأثر الأبرز في تنامي هذه الظاهرة.
ويؤكد هذا الرأي مخرجات دراسة حديثة عزت أسباب تسرب الطلاب من المدارس إلى عوامل متعددة تصدرتها الظروف المادية الصعبة.
الدراسة الموسومة بـ " تأثير النزاع المسلح على الوصول للتعليم في اليمن ـ دراسة ميدانية 2021 ـ 2020 "، التي نفذتها منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، على عينة بلغت 700 حالة من 137 مدرسة في ثمان محافظات هي تعز والحديدة وصنعاء "الأمانة والمحافظة"، وعدن وأبين والضالع وحجة وصعدة، أوضحت أن السبب الاقتصادي يتصدر أسباب تسرب الطلاب والطالبات من المدرس، والذي جاء بنسبة 48.3 % من عينة المبحوثين، يليها الأسباب النفسية بنسبة 18.8 %، وبيئة تعليم غير ملائمة بنسبة 11.4 %، ونسبة مماثلة لضعف اهتمام الأسرة بالتعليم، فيما مثل بعد المدرسة عن مكان السكن بنسبة 5.4 %، والالتحاق بالتجنيد بنسبة 4.7%.
وأوصت الدراسة بأهمية وقف جميع أشكال الهجمات على المدارس، والمرافــق التعليميــة والمناطــق المحيطــة بهــا، لضمــان اســتمرار التعليــم، والالتــزام بعــدم التعامــل مــع المــدارس كأهــداف عســكرية، وإيجــاد منافــذ آمنــة للمــدارس فــي المناطــق التــي مــا زالــت تــدور فيهــا الاشــتباكات، كما أوصت بتشكيل لجنة مشتركة ومستقلة لإدارة الأزمات بمجال التعليم في حالات الطوارئ، وتفعيل الــدور التوجيهــي والإشــرافي للهيئــات المســؤولة عــن التعليــم فــي ظــل النــزاع، وتفعيــل وظيفــة التوجيــه المدرســي علــى نحــو خــاص لمراقبــة الأداء التدريســي وتوفــر الحــد الأدنــى مــن جــودة التعليــم وتحقيــق الأهــداف التعليميــة، وتعزيز الشراكة بين أولياء الأمور والمدارس في مجال التعليم عبر تفعيل مجالس الآباء لضمان مناقشة والحد من تسرب الطلاب والطالبات من المدارس.
وكان تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) في العام 2018 بعنوان :" خارج المدرسة ـ أطفال اليمن ودروب الضياع" قد أكد أن أكثر من 2,500 مدرسة أصبحت خارج الخدمة كليًا، وقد أقفلت 27 في المئة منها أبوابها، وتكبدت 66 في المئة أضرارًا، واستُخدم 7 في المئة كملاجئ للنازحين أو صادرتها السلطات لغاياتها الخاصة.
وفقًا لتقرير آخر صادر عن اليونيسف في شباط/فبراير 2021، يحتاج أكثر من 8 ملايين طفل يمني إلى دعم تعليمي طارئ، أي أنهم بحاجة إلى "مجموعة من المشاريع التي تضمن استمرار التعلّم المنظّم في حالات الطوارئ أو الأزمات أو اللاإستقرار الطويل الأمد".
مبيناً أن عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس يبلغ المليونين، ما يشكّل زيادةً بنسبة 120في المئة منذ العام 2015، عندما كان عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس يلامس عتبة الـ 900 ألف، لكن بعض الدراسات المحلية تتحدّث عن رقم أعلى يقارب 3 ملايين طفل.
ونظرًا إلى أن 70 في المئة من سكان البلاد يقيمون في المناطق الشمالية، فوقع المأساة يُعتبر هناك أكبر، خصوصاً وأن إحصائيات رسمية أفادت أن 400 ألف طفل يضافون سنوياً إلى قائمة الأميين.