لأول مرة أجلس مع امرأة يمنية، كنت أراهم فقط من بعيد يسرعون الخطى لا أكثر، ألاحظهم وأعرفهم من حجم أجسادهم الصغير والنحيل وتركيزهم في الوصول إلى وجهتهم وخجلهم إلى حد ما.
جاءتني تزورني أمس دون سابق معرفة ليتعرف ولدانا فسيذهبون إلى المدرسة سويًا، ومن الأفضل لهما أن يتعارفا كجيران أولًا قبل الذهاب إلى غربة المدرسة في أول يوم دراسي.
كعادة اليمنيون أو ما هو موجود في دماغي عنهم، فهي امرأة طيبة، حافظة لكتاب الله، تحدثنا في الشأن الخاص ومن ثم سألتني عن أهلي في مصر، وعن الوضع في مصر بشكل عام، وبدوري سألتها عن الأوضاع في اليمن.
العنوان الأقرب إلى الحقيقة والخلاصة الختامية لما دار بيننا أننا "في الهم سواء" أقصد كعرب.
قالت لي بالرغم من أن زوجها يعمل في التدريس الجامعي، إلا أنها قدمت على وظيفة "مدرسة ابتدائي"، فهي بحاجة إلى المال لمساعدة أهل قريتها، فالجميع بحاجة إلى المال، وأنها تود لو تساعد الناس هناك جميعًا.
قالت لي أنها من تعز، وأن الوضع في غاية السوء هناك، ومن سيء إلى أسوأ، وأنه لا مجال لتحسين الأوضاع في وقت قريب، لأن من يحاربونهم هم من داخل اليمن وأفكارهم متجذرة داخل أدمغتهم، ولا مجال لتنقيحها أو تغييرها، إذن فالوضع سيظل قاتمًا.
حكت لي عن مكالمة أختها لها يوم أمس، وأنها خائفة جدًا، فهم يجلسون بشكل دائم في منتصف المنزل لا يدخلون غرف النوم ولا المطبخ أو غيره، ولماذا يعيشون في وسط المنزل ياترى؟!.. ببساطة.. حتى إذا جاءتهم قذيفة من هنا أو هناك لا تنفجر في جسدهم مباشرة، فربما وجدت قبل أن تصل طريقها إلى أدمغتهم حائطا قبلًا، فينجوا هم بأنفسهم.
جلوسهم في الوسط وتوقع انفجار القذائف في أجسادهم ليس رفاهية ولا يأتي من فراغ، أبدًا على الإطلاق، فابنة خالتها لاقت حتفها بنفس الطريقة، طالبة ثانوي كانت تقف بغرفة المطبخ، فجاءتها قذيفة وانفجرت في رأسها وتناثر جسدها نقاط من الدم في كل مكان، قالت لي: أنهم جمعوا جثتها بالمجرفة. ووضعوها في كيس.
قالت لي أيضًا أن جمع من أقاربها لاقوا حتفهم.. قالت لي أنهم لا ينتمون لأي فريق.. لا المقاومة ولا غيرها.. هم فقط يمنيون فقراء يجلسون في بيتهم ويحاولون أكل عيشهم.
ثم قالت لي: أن الوضع المادي والغذائي هناك غاية في الصعوبة، فهم لا يملكون المال حتى يأكلون، كما أن من يملك المال لا يجد المواد الغذائية، وإذا وجد المواد الغذائية فالغاز في غاية الغلو فلا يستطيعون شرائه.
قلت لها: يالله.. كل البلاد العربية سواء، فأكدت لي أن الوضع في اليمن غير، فهو أصعب، فلا يوجد لديهم أي مورد مالي أو مستقبل للحصول على المال لبناء حتى منازلهم التي تدمرت.
أضافت واستنكرت بصوت هادىء قائلة: أيعقل أن يحدث كل هذا الظلم وكل هذا الدمار والخراب من أجل أن يكون هناك رجل واحد يريد أن يكون "رئيس"!!.
استدركت قولها بقول آخر لتقول: ولكننا كشعوب عربية أيضا ظلمنا أنفسنا، فقد تغيرنا وبعدنا عن الله، وربما يريد الله مما ابتلانا به أن نفيق من غفلتنا.
ما أدهشني أنها كانت تتحدث بهدوء شديد في كل هذه الأمور التي تحرق الأعصاب وتنثرها في الهواء بعد حرقها.. كانت تعبر عن كل تلك المآسي بصوت خفيض، لا أعرف إن كان نوعًا من الرضا أو إن كان نوعًا من الحزن المكتوم أو إن كان جزءًا من طبيعتها، أو ماذا لا أعرف.
نادت على ابنها "صدام"، فسألتها: لماذا أنتم كيمنيون تسمون أبناءكم بهذا الاسم كثيرًا؟ فأجابت: نحن نحب اسم صدام بالفعل، لأننا كنا نحب شخصية صدام حسين، فهو شخص قوي استطاع أن يحافظ على العراق ويجعلها دولة قوية. وابتسمت ابتسامة ضعيفة وقالت: هل تعرفين أننا في حرب صدام على الكويت كنا مع العراق طبعًا دون الكويت.
ياااااااه.. كم تاريخنا مخجل.. كم بعد الآن صدام عن العراق.. وبأي شكل خرج منها إلى حتفه، وماذا حدث في العراق بعدها؟ وهل كان لابد لصدام أن يتعارك مع دولة عربية أخرى ويجبر الآخرين على اتخاذ موقفا من الدويلتين العربيتين.. إن تاريخنا مكبلًا ومخضما بالعار والجهل حقًا.. ولكن أتدرون أي أمر شرير يدور في رأسي: وددت لو يشنق جميع الحكام العرب بنفس ذات الطريقة.. أتراهم سيتركون بلادهم المدمرة ويكتفون إلى هذا الحد.. أبدًا فهم يجلسون على عروشها كما يجلس الشيطان على عرشه بالماء. فهو يعرف مصيره أنه النار، وبالرغم من ذلك أخذه كبره وغروره إلى عرش يغوي من فوقه البشر. وربما يغوي كل الحكام العرب بأن يحتذوا به فيكتفون بعروشهم على دويلاتهم التي يتصاعد من مساجدها وكنائسها وأدمغة شعوبها الدخان، لأنه لا سبيل لهم في الآخرة.
ماذا تبقى من الدويلات العربية الآن.. أين سوريا وأين العراق وليبيا وأين اليمن وفي أي اتجاه ذهبت مصر.
آه يامصر.
وعلى رأي زوجي.. فمن مصر يشع الأمل أو يعم البلاء.. فحينما قامت الثورة في مصر، انتصبت جميع الوجوه العربية لترى كيف سيصير العالم بعد أن تكون "مصر". ولكنها لا كانت ولن تكن في الوقت القريب. ثم حينما انقلبت مصر، انقلب الجميع فالحوثيون في اليمن وحفتر في ليبيا وانتقم بشار من شعبه ببراميل الوقود والغازات السامة والمواد الكيماوية المحرمة دوليا. أما باقي شعبه فهو الآن يغرق في وسط البحار ليعود جثث هامدة إلى شاطىء هنا وآخر هناك.
ثم ماذا.. نعود عودتنا.. فالسيدة تريد أن تعمل كي ترسل ببعض الجنيهات إلى أهلها في تعز، كي يستطيعوا العيش أو شراء بعض المواد الغذائية ليقتاتوا عليها قبل أن يحين دورهم ودورنا.