أحرف كثيرة مبعثرة ومشتتة، تنبعث من حيث (اﻵه)، من حيث الوجع المر؛ وجع هو عنوان هذه اللحظات الكئيبة، واﻷيام العصيبة!!
تتسابق الكلمات من منبعها الوحيد، وتتجه إلى مجراها الوحيد، لترسم لوحة أكثر قتامة، وتعكس واقعا مريرا في زمن التيه والخذلان.!!
إنها أحرف قلب مكلوم يعتصره اﻷلم، لا يملك إلا أن يبوح بها..علها أن تنفس عنه ولو جزءا يسيرا مما يقاسيه، وتخفف عنه مايعانيه ويعتلج في داخله.!!
آه..ما أشد وما أقسى تلك اللوعة التي ترافق الحديث عن الوطن.
نعم.. (الوطن)!!!
هنا حيث لا وطن، في هذه المساحة الكبيرة من اﻷرض الواسعة، حيث أقف حائرا مشدوها، أقف فيها وأنا أتأمل حال هذه اﻷرض المنكوبة، التي سماها أهلها ومحبوها وأبناؤها اﻷوائل(اليمن).
أتلفت يمنة ويسرة، ﻻ شيء هنا يحكي وجوده سوى أطلال لمساكن كان أهلها يرسمون فيها أحلامهم على نغمات وترانيم ضحكات أطفالهم الصغار في أفنية المنازل، قبل أن تدمرها قذائف العابثين، وتبعثر براعم تلك اﻷحلام.!!!
ﻻ شيء هنا في هذه الروابي والسهول، سوى وجوه مغبرة عابسة ﻷشخاص تحيط بهم روائح الموت وروائحهم النتنة، يتخطون رقاب اﻵمنين، يتنقلون من زاوية إلى أخرى، بحثا عن الوطن وعن أبنائه المخلصين..أو ربما عن بقايا وطن كان هنا، قبل أن يهاجر ليلتحق بمحبيه الذين سبقوه بالهجرة فرارا بحبه وخوفا عليه.!!!
هنا فقط بقي الخراب والدمار ليحكي هول المأساة، فتتخلل ثنايا هذه الحكايا المؤلمة قصص يشيب لهولها الولدان.
فهنا بقايا ﻵثار مدرسة لتحفيظ القرآن لطالما انبعثت منها نفائس الرحمن، وسطرت فيها ذكريات إيمانية لشباب وفتيات هم صفوة مجتمعاتهم وقراهم، شباب تسكنهم السكينة، ويعلوهم الوقار، يروحون ويغدون وكأنهم طيور الفردوس اﻷعلى.
وهنا أطلال مئذنة كانت لزمن طويل تصدح باﻷذان، وينطلق منها التكبير الخالص المجرد لله، ليشق صمت ليل بهيم، مؤذنا بصباح جديد حافل باﻷمنيات.
وليس ذلك التكبير المدهون بالسياسة، المشحون بالعمالة، الذي تستر خلفه المتربصون بهذا الوطن وأبنائه، ليمرروا من خلال ذلك الشعار مشاريعهم الخبيثة.
لا شيء هنا غير طيور وحمائم وعصافير حائرة هائمة، فلم يعد لها مكان هنا لتبني أعشاشها، وترتل ألحانها، وترسل ترانيم أصواتها الشجية الندية، فلا مكان ولا أمان لها في ظل أصوات المدافع وأدخنة البارود، ولا صوت يعلو فوق صوت المدفعية.
هي اﻷخرى تبحث مثلي عن وطنها المهاجر، تبدو وهي قلقة مشتتة تماما كأحرفي وكلماتي، والتي ﻻ يجمعها سوى المعاناة والمأساة.
عبرات وزفرات، غصص وآهات، تتسابق وتستبق كل منها اﻷخرى باتجاه هذه الروح المنهكة، المثقلة بجراحاتها المزمنة.!!
وقفت وأنا أستعرض فصول المأساة التي حلت بهذا الوطن، وأرقب الشمس المحمرة وهي تدنو رويدا.. رويدا نحو الغروب، لتفسح المجال لليل قادم يلف بسواده اﻷفق.!
وما هي إلا لحظات وإذا باﻷمل ماثلا أمامي كأنه نور السماء، جاء لينقذني من أمواج اﻹحباط المتلاطمة، ويربت على كتفي، ويمسح على صدري، ويعيد للروح روحها، حينها تذكرت أن هذه (الشمس) التي انسحبت.. ستشرق غدا من جديد.!!!