لم نصل إلى 22 مايو 1990، لمجرد أن أحدهم حلم ذات ليلة، فتحقق حلمه عند الساعات الأولى من الفجر. لقد ظلت الوحدة هاجس اليمنيين منذ اللحظة التي وعوا أنفسهم فيها، وقال المناضلون كلمتهم طوال مراحل النضال: إن الوحدة اليمنية قدَر الناس والباب الذي منه يلجون إلى المستقبل.
في العام 1990، بدا أن اليمنيين قفزوا خطوة هائلة إلى الأمام,، وظهروا أمام العالم بنموذج وأسلوب لحوار أدّيا في النهاية إلى الاتفاق على وحدة شطري اليمن، كما حلم اليمنيون. بدا للعالم وقتها أنهم سيعمّمون نموذج توحدهم، خاصة وقد حققوا إنجازهم التاريخي مباشرة بعد الألمان؛ فقد هدم الألمان سور برلين ليتدفقوا بين شطري وطنهم الذي تقاسمه المنتصرون بعد الحرب الثانية. ولتتدفق، كما قال لي المرافق الفنلندي في العام 2000، إلى شرايين الاقتصاد في شرق ألمانيا مليارات "المارْكات". لقد كانت إطلالة واحدة من تلك الخيمة الصناعية المشهورة وسط برلين,، كافية لتُري الناظر آلة التنمية تدور بوتيرة متسارعة، لتلحق أرقام التطور في الغرب الألماني وبسرعة مدهشة! لقد دخل "هيلموت كول" التاريخ من أوسع الأبواب برغم ضخامة جثته!
لم تمنعه نحافته البادية يومها للعيان وقصر قامته، من أن "يلقي محاضرة في سيول للكوريين"، في كيفية التوحد! لقد كانت نشوة اليمنيين في تلك الحظة بادية للعيان بما أنجزوه,، وهو إنجاز رُؤِي لحظتها من خلال بعده الديمقراطي، والذي كان هو الضامن الأكبر للاستمرار,، وإن تركت عبارة د. ياسين سعيد نعمان للأمانة العامة لنقابة الصحفيين، وقد ذهبت إليه للتهنئة في مكتبه بمجلس الشعب، "مَرْكِنْكُمْش"، أثراًًا تحول إلى سؤال رأينا جوابه لاحقًا في إفراغ شعار الديمقراطية من مضمونه، ليتسيد شعار الضمّ والإلحاق من قبل رموز القوى التي لم تكن تريد الوحدة أصلاًًا، فما بالك بالديمقراطية أسلوبًا للحكم وتداول السلطة سلميًّا. لا يزال في الرؤوس الكثيرة والكبيرة ذلك النهج الذي يوزع الناس: درجة أولى مواطنة... درجة عاشرة رعيّة!
لم تأتِ أو تعاد اللُّحمة بالصدفة لمجرد أن رئيسَي الشطرين حينها دخلا النفق وخرجا منه متفقَين على سرعة إتمام إجراءات التوحد، ما أدهش كثيرين كانوا هم بالذات يطالبون بالتريّث، أو على الأقل، بالاتحاد خطوة أولى على طريق الوحدة الكاملة. كان الشارع لحظتها يغلي اشتياقًا لدحر البرميل! وبالمقابل كان هناك من يرى في ما جرى من إعلان للوحدة الكاملة ورفع العَلَم خروجًا عن رغبة قوى في الواقع رأت أن الخطوة متسرعة,، فحساباتها الخاصة كانت ترى في الوحدة خطوة إلى مجهول هي حددت معالمه وخطورته,، ولأن شروطها لم تكن هي الهادي لمن وقعوا! برغم أن أحدهم كان في رأسه موّال ظهر جليًّا في الفترات اللاحقة وأولها الانتقالية!
لم يجانب د. ياسين الحقيقة في عبارته التي قالها لنا,، لكنها أيضًا كانت تعبيرًا عن الخوف على ما أُنجز، وهو كبير بحجم جبال هذا الوطن الذي يحاول تمزيقه الآن من وقفوا ضده وعملوا على وأده بكل الطرق.
ابتدأت حرب القضاء على الوحدة من معركة الدستور، لتلحقها معارك كان أبرز حروبها حرب 94، التي بدا أن من بيّتوا النية للقضاء على حلم اليمنيين، انتصروا فيها,، لكنها كانت الرصاصة التي انطلقت من بندقيتها لتصيب من أطلقها حربًا على الوحدة وحقوق المواطنة، وجرفت كل شيء في طريقها، بما فيها مشاريعهم الخاصة,، ليأتي من كان يبيّت النية للانقضاض على كل شيء بدعوى المؤامرة الخارجية! وليفتح الباب لمن كانوا أصلًا ضد الوحدة التي نظروا إليها على الدوام عدوًّا لمصالحهم,، من وحي "خيركم وشرّكم",، والهروب من الشبح القادم من بحر الصين، لتكون هذه البلاد ضحية، عليها يتم تصفية كل الحسابات، وهو ما يحتّم على من لا يزال العقل يحكم رؤوسهم، أن ينتصروا لوطن الثاني والعشرين من مايو1990.
في العيد الوطني الـ31 للجمهورية اليمنية، نرفع أيدينا بالتحية إلى الجنود المجهولين والأحياء ممّن أنجزوا,، ولا عزاء لمن ابتاعوا واشتروا
توحدت ألمانيا، كما أسلفنا,، وتولّت حكمها - حتى سبتمبر القادم- السيدة ميرَكل عالمة الفيزياء,، وهي من الشرق,، بمعنى أن القطار انطلق ولم ولن يعود إلى المحطة الأولى، ولم تستطع الكوريتان أن تستعيدا لُحمتهما، رغم محاضرة من قاد القطار وأخرج لسانه لبقية راكبيه,، ليقع في الأخير في شرّ أفعاله كما يقولون، وليرسّخ ما فعله ضرورة أن يُعاد النظر في صيغة حكم البلاد التي كبرت بفضل الوحدة,، فالضحك على الذقون بالحكاية المسلّية التي لا وجود لها حتى في حكايات الأطفال: "حكم محلّي واسع أو كامل أو ناقص الصلاحيات"، هي صيغة لا وجود لها,، بل محاولة للخداع لا بد أن تزول من قاموس البلاد السياسي,، وإلّاّ فإن دورات الصراع لن تتوقف أبدًا.
هل قُتلت الوحدة؟ أقول وبملء الفم: لا، طالما وقلوب اليمنيين تنبض بها. لقد جرى تأخير القطار أو سرقته,، لكن الشعوب لا تترك أقدارها عرضة للنهب!
سيظل اليمن موحّدًا، رغم الرغبة الإقليمية وقوى "ما بدا بَدَيْنا عليه"، بتحويلها من مشروع إلى قضية مفرغة من أهدافها العظيمة، وتحويلها إلى مجرد فَيْد وشارع سكني تجاري!
ماذا نريد، وبأي جمهورية نحلم، وأي دولة لا بد أن نستعيدها؟ يفترض بنا أن نتحدث على الدوام عن الجمهورية اليمنية- وليد الوحدة المباركة، التي ما يزال من لا يدركون معناها، يعملون على تحويلها إلى مجرد مناسبة احتفالية,، وثروة وسلطة! الجمهورية اليمنية دولة ذات سيادة معترف بها تمتد من صعدة إلى المهرة، وبينهما "نَشْطُون" و"الخراخير" والساحل الغربي وسقطرى وميناء عدن,، وعدن حاضرتها.
دولة قائمة على ركائزها: الدستور وحقوق الإنسان، ديمقراطية صندوق حقيقي وضعه اليمنيون جميعًا يأتي بحاكم منهم من أي جهة ومن أي منطقة ومن أي طائفة أو مذهب، وقانون يحمي الحياة,، يحمي المواطنة المتساوية تحت سقف الدستور فقط,، لا سيّد ولا مَسُود,، بل مواطن يمني بكامل حقوقه. وهذا يذهب بنا إلى السؤال: هل لا تزال مخرجات الحوار الوطني صالحة لما بعد الحرب التي تأكلنا كل يوم؟ طالما والدستور والحرية والقانون بضمنها، فلن نختلف على التفاصيل,، التي يحولها المغامرون إلى شيطان يغوي النفوس. في العيد الوطني الـ31 للجمهورية اليمنية، نرفع أيدينا بالتحية إلى الجنود المجهولين والأحياء ممّن أنجزوا,، ولا عزاء لمن ابتاعوا واشتروا.