عن وفاة أستاذ الأنثربولوجيا في جامعة صنعاء محمد العمراني
من يحبه الناس يبقى حيًّا في حكاياتهم التي لا تموت
الإثنين 05 إبريل-نيسان 2021 الساعة 06 مساءً / المركز اليمني للإعلام - خيوط - صامد السامعي
عدد القراءات (6274)

الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا، والتاريخ 17 مارس/ آذار 2021. في ذلك الوقت كان الخبر قد صعق كثيرين، لكنه لم يكن قد أصبح رسميًّا بعد، رغم أن نشطاء ودكاترة جامعة كانوا قد أعلنوه قبل ساعتين في وسائل التواصل الاجتماعي. ثم نشرت الهيئة الإدارية لنقابة أعضاء هيئة التدريس ومساعديهم في جامعة صنعاء في الساعة العاشرة ودقيقتين، بيانًا ينعى ببالغ الحزن والأسى وفاة الدكتور محمد عبدالله العمراني، أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية.

كل ما كتب ذلك اليوم وبعده كان محتواه متشابهًا: "غادر الحياة شخص استثنائي". وبالعودة إلى تاريخه وشهادات من كتبوا عنه كان واضحًا أننا فقدنا شخصًا استثنائيًّا بالفعل. لكن أكثر ما بعث الحزن عند جميع معارفه وأصدقائه عرفناه في وقت لاحق، عندما قالت مصادر أكاديمية لـ"خيوط": "توفي في منزله، بعد أن عجزت عائلته عن أخذه إلى المشفى الذي كان يتردد عليه للعلاج".

كان العمراني قد بلغ السابعة والستين من العمر، ومع هذا لم يكن من المفترض أن يكون حاله هكذا، لكنه عاش ما يزيد عن 25 عامًا يؤدي واحدة من أكثر الوظائف إنهاكًا لشخص يتمتع بكل ذلك القدر من الالتزام تجاه واجب لم يعد الغالبية يأخذونه بمحمل الجد. وعندما غادر منتصف الشهر الماضي كان قد أكمل أكثر من 5 سنوات بدون راتب، فرحل إثر معاناة طويلة مع مرض لم تمكنه ظروفه من خوض صراع متكافئ معه. يقول زميله في جامعة صنعاء الدكتور جميل عون، إن هذا أمرًا آخر يبعث مزيدًا من الحزن.

شيء من سيرته

في حوض الأشرف بمدينة تعز جنوب غرب البلاد، فتح الدكتور محمد العمراني عينه لأول مرة عام 1953. لم أستطع أن أعرف تاريخًا أكثر تحديدًا لمولده، وكما يبدو من الشواهد التاريخية يمكن القول إنه لم يكن هناك ما يجعل الناس حينها تعتقد أن ذلك اليوم الشبيه بكل أيام تلك الفترة الباقية من القرون الوسطى يستحق أن يعاملوه كيوم مميز.

يقول قادري: "كان يمشي حاملًا تعبه، يمشي صادحًا بطقوس الغناء التي اعتادها من بداية الرحلة، ليقهر تعب العمر، وليشعرنا بالفرح". ثم يخاطب صديقه: "اليوم أشعر أنك حياة جديدة في داخلنا، فشريط ذكرياتنا معك يجمعنا ويوحدنا بك. الله ما أقسى الفراق مع أمثالك من الرجال".

وعلى كل حال كان أغلب اليمنيين حينها لا يؤرخون لأطفالهم، ولعل ذلك كان احتجاجًا -غير مرتب له- منهم لما تعيشه البلاد من تخلف وجهل. لكن خريج سابق من قسم علم الاجتماع بجامعة صنعاء شدد في حديث لـ"خيوط"، على ضرورة بذل جهد مهما كان لمعرفة يوم مولد الدكتور العمراني، وتكريمه بجعل تاريخ ذلك اليوم اسمًا لإحدى قاعات المحاضرات في جامعة صنعاء. 

يقول ربيع الجنيد: "هذا أقل عرفان يمكن أن نقدمه لشخص مثل الدكتور العمراني الذي أفنى حياته في سبيل الناس والجامعة والطلاب". ويضيف: "كلنا مدينون لهذه القامة، كان إنسانًا ودكتورًا، وأبًا، وصديقًا اسثنائيًّا. كل من عرفه في الجامعة سيقول إنه كان عظيمًا، لكنه أكثر عظمة بالنسبة ليمنيين كثر عمل على قضاياهم كواحد من أهم الأنثربولوجيين الذين اقتربوا من الناس".

في 1970 بلغ العمراني السابعة عشرة من العمر، وفي ذلك العام التحق بقسم علم الاجتماع في كلية الآداب بجامعة صنعاء طالبًا. وبعد أربعة أعوام جاء موعد تخرجه، لكن هذه كانت بدايته الحقيقية في الجامعة، حيث عُيّن بعد تخرجه مباشرة معيدًا في نفس القسم، وعلى الرغم من أنه سافر عام 1975 إلى فرنسا من أجل مواصلة الدراسة، إلا أنه عاد بعد ثلاث سنوات إلى اليمن يحمل درجة الماجستير التي حصل بموجبها على درجة دكتور مساعد في جامعة صنعاء.

بعد ذلك أنجز العمراني في سنوات أبرز أعماله في النقد الاجتماعي. فكباحث متخصص توجه إلى قرى ومناطق مختلفة داخل اليمن. ومن منابع المياه في عمران والمحويت وبساتين قاع البون في صنعاء شمالًا، إلى أودية تهامة غربًا، ووصولًا إلى مزارع لحج وأبين جنوبًا جاب العمراني يعمل على إعداد دراسات حول (حيازة وملكية الأرضي الزراعية)، تقع في ثماني مجلدات أنجزها في نحو 20 عامًا، تناول فيها الأراضي والمساحات الزراعية في اليمن وكيف تم السطو عليها من أيام الأئمة والسلاطين وما بعدهم وتحويلها إلى إقطاعيات. كان يؤدي وظيفته كأستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في نفس الوقت.

أصدقاؤه وطلابه ينعونه

في حائطه موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك قال الدكتور معن دماج: "أستاذي من أيام التلمذة والطلب، أستاذ النظرية الاجتماعية، المناضل ابن المناضل، المشغول بالناس والبلاد، الدكتور محمد العمراني مات اليوم في صنعاء"، مضيفًا: "تعازينا القلبية لأولاده وأهله ورفاقه وتلاميذه، وكل محبيه".

"كان مختلفًا في كل شيء، بساطته، تواضعه، ضحكته المجلجلة، حبه للأصدقاء، عشقه لدرسه الجامعي، فرحه بأصدقائه الطلاب. كان متوجًا بتاج الكرامة، كارهًا لدمامة العقل، وخبث الروح حين يتمثلها البعض سلوكًا. كان يغضب بكل الصدق في داخله، ويسامح حتى منتهى الغفران، هذا هو محمد ابن العمراني، ومثله لا يموت، يغادرنا هنيهة، فقط، ليختبرنا، هل تركنا حلمنا وحيدًا؟". هكذا كتب أيضًا أحد أقرب أصدقاء العمراني وزميل دراسته قادري أحمد حيد، مضيفًا: "غادرنا ممتشقًا روح الفرح اللامتناهي للحياة، وعزيز المحبة للأصدقاء. الله كم نفتقدك".

يقول قادري: "كان يمشي حاملًا تعبه، يمشي صادحًا بطقوس الغناء التي اعتادها من بداية الرحلة، ليقهر تعب العمر، وليشعرنا بالفرح". ثم يخاطب صديقه: "اليوم أشعر أنك حياة جديدة في داخلنا، فشريط ذكرياتنا معك يجمعنا ويوحدنا بك، الله ما أقسى الفراق مع أمثالك من الرجال، من الأصدقاء".

أما بالنسبة للباحث والناشط مصطفى الجبزي، فلم يكن الدكتور العمراني مجرد أستاذ له فقط في قسم الدراسات السكانية، رغم أنه تعلم منه أشياء كثيرة ليست في الكتب والملازم: "من نقاشاته حول المجتمع اليمني والبيئة الجامعية، وحديثه عن سياسات توزيع مياه الأمطار عبر التاريخ اليمني، تعلمت أشياء كثيرة" يقول الجبزي. مضيفًا: "إنه ليس أستاذًا لي فقط، فهو رفيق وصديق شفاف وصادق، جمعتني به روابط إنسانية وعلاقة ود؛ كوننا نتحدث الفرنسية، وشعرت أني معه في حضرة صديق عالم، رغم فارق السن وموقعه كمدرس وأنا كطالب".

وبالنسبة لعبدالإله المنحمي أيضًا: "لي، لم يكن العمراني أستاذًا فحسب، كان أيضًا أبًا وصديقًا وملهمًا". المنحمي هو خريج سابق من كلية الآداب جامعة صنعاء، يقول: "كنا نجلس في ركننا الخاص في كافتيريا الكلية، فيأتي العمراني ويجلس معنا دون أن يحسسنا بأي فارق بيننا وبينه، وهو الأمر الذي أدمن عليه كثير من أساتذة جامعة صنعاء، وتحول عندهم إلى هوس مثير للشفقة. وكنا نستطيع أن نناقش معه كل شيء، بَدءًا بقضايا السياسة، مرورًا بكرة القدم، ووصولًا إلى الشعر والحب ومشاكله".

كان العمراني بسيطًا ومهابًا في وقت واحد، بحسب المنحمي، وعندما يتكلم كان يستحوذ على مستمعه بحلاوة كلمته وخفة روحه وقوة وجدانه. يقول: "كنت أرتاح عندما أستمع إليه، حتى وإن كان يدافع عن قضية لا أتفق معه بها!".

وعُرف عن الدكتور العمراني انتماؤه السياسي للحزب الاشتراكي اليمني، وبحسب أحد زملائه كان واحدًا من قيادات الحركة الطلابية في جامعة صنعاء أثناء دراسته فيها، كما كان ناشطًا لمدة من الزمن في صفوف الحزب الاشتراكي الذي ظل عضوًا فيه حتى آخر أيامه. يقول القيادي الاشتراكي الدكتور عبدالقادر البنا،ء الذي يعيش في ألمانيا منذ 2015: "أنا حزين على رحليك دون تمكني من وداعك أيها الرفيق الوفي محمد العمراني، خسارة الوطن فادحة برحيلك كما هي خسارة جامعة صنعاء وحزبك ورفاقك وطلابك". مضيفًا: "برحيلك فقدنا عالمًا اجتماعيًّا فذًّا وعميقًا في تحليلاته وأدائه كأستاذ ومربي للأجيال، بسيطًا ومتواضعًا ووفيًّا في تعاملاته، صامدًا ومخلصًا في دفاعه عن قضايا وطنه وشعبه، لم تهادن سلطة الاستبداد ولم تنكسر يومًا منذ عرفتك مطلع سبعينيات القرن الماضي. ستظل خالدًا في وجدان أبناء شعبك الأوفياء وفي ضمائر كل من تتلمذوا على يديك".

وبحسب إياد دماج: "كان الدكتور العمراني صاحب رؤية تحليلية معمقة للبنى الاجتماعية التقليدية وعلاقاتها بمنظومة السلطة في تاريخها الوسيط والمعاصر. بعد معرفته بالخبر، كتب إياد في صفحته على الفيسبوك: "يا الله! أحد أعظم عقول البلاد وأكثر ضمائرها نقاءً وعفة، أبرز وجوه جامعة صنعاء التي نافحت الاستبداد والجمود لسنوات طويلة يرحل اليوم". مضيفًا: "المربي العظيم والصديق المحب، يرحل عن هذه البلاد القاسية الجاحدة. مغبون لأني انقطعت عنه بفعل الحياة التي أحالها الطغيان في هذه المدينة إلى مقبرة، كان كل ما أتمناه أن ألتقيه مرة أخرى، أسمع صوته الدافئ وضحكته المجلجلة وحزنه الذي يغشى البلاد".

خسارة لا تنتهي

يقول قادري أحمد حيدر: "في الفصل الأخير من رحلته مع تعب الجسد، استشعر الخوف من الآتي، لأنه لم يرَ ضوءًا في نهاية الطريق، كان يهجس بصوت كله ألم، وحنين، أن يغادرنا قبل أن ينبلج فجر الصباح الذي أحبه بهيًّا، أحب الإفاقة على صبحه، ليراه في حلة جديدة. ولكنه غدر الزمان، توحش عنصرية السلطة، مكر الموت الذي يختار منا الجياد، اختار أجمل وأصدق ما فينا ليتركنا في العراء، بدونه، وبدونك يا محمد، يؤرقنا جلال الرحيل، تعبنا يزداد، فألم فراقك يغطي جهات الروح حتى لا مكان".

شعرت أسرة الدكتور العمراني بمرارة الخسارة بكل تأكيد. لكن هذه الخسارة ليس من ذلك النوع الذي تنتهي هنا. جامعة صنعاء خسارتها فادحة أيضًا. أصدقاؤه شعروا بالمرارة، وطلابه لم يكن باعتقادهم أن خسارة من هذا النوع كانت تنتظرهم، رغم أنها كانت ستحصل في النهاية. لكن خسارة الناس الذين كان أمرهم يهم العمراني أكثر من أي شيء آخر لا يمكن تخيله، ربما هم أكثر من سيشعرون باليتم. صحيح أنهم ناس بسطا،ء موزعين على خارطة هذه البلاد ولا نعرفهم، إلا أنهم يعرفونه، لأنه كان قد جعلهم يعرفون أن لهم حق في هذه البلد. هذه خسارة لا تنتهي بالفعل، لكن عزاءنا الوحيد أن من يعرفه الناس ويعرفون صدقه يبقى حيًّا في حكاياتهم التي لا تموت.


تعليقات:
    قيامك بالتسجيل وحجز اسم مستعار لك سيمكنكم من التالي:
  • الاحتفاظ بشخصيتكم الاعتبارية أو الحقيقية.
  • منع الآخرين من انتحال شخصيتك في داخل الموقع
  • إمكانية إضافة تعليقات طويلة تصل إلى 1,600 حرف
  • إضافة صورتك الشخصية أو التعبيرية
  • إضافة توقيعك الخاص على جميع مشاركاتك
  • العديد من الخصائص والتفضيلات
للتسجيل وحجز الاسم
إضغط هنا
للدخول إلى حسابك
إضغط هنا
الإخوة / متصفحي موقع المركز اليمني للإعلام نحيطكم علماُ ان
  • اي تعليق يحتوي تجريح او إساءة إلى شخص او يدعو إلى الطائفية لن يتم نشره
  • أي تعليق يتجاوز 800 حرف سوف لن يتم إعتماده
  • يجب أن تكتب تعليقك خلال أقل من 60 دقيقة من الآن، مالم فلن يتم إعتماده.
اضف تعليقك
اسمك (مطلوب)
عنوان التعليق
المدينة
بريدك الإلكتروني
اضف تعليقك (مطلوب) الأحرف المتاحة: 800
التعليقات المنشورة في الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر عن رأي الموقع   
مواضيع مرتبطة
1700 مليار دولار خسائر سنوية.. التغير المناخي يعصف بالاقتصاد العالمي
ما قصة المدينة الآسيوية التي يتناول سكانها وجبات إفطار دسمة في الرابعة فجرا؟
قصة متشرد تحول إلى رئاسة شركة بمليار دولار
ميشال ليريس... الكتابة والمجازفة!
أفضل الروايات العالمية في التاريخ