كان العام 2011، بدايةَ بزوغ فجر الربيع العربي في عموم المنطقة العربية. بزغ فجره في تونس 17 ديسمبر 2010، وأشرق في ميدان التحرير في مصر 25 يناير، ثم سطعت شمسه في سوريا وليبيا واليمن والبحرين والجزائر، ولاحقًا في السودان والعراق ولبنان.
انتصر الربيع في تونس، ولكن لا يزال يواجه إرث عهود الفساد والاستبداد. في الجزائر أطاحت الثورة بالعهدة الخامسة، ولا تزال في مواجهة مع تركتها ممثلةً في سلطة الشرعية الثورية المتحولة إلى سلطة فاسدة ومستبدة.
في مصر تحالف الإسلاميون والعسكر ضد الثورة. انفرد العسكر بالحكم بعد إقصاء الإسلاميين، بعد أن تشاركا في اختطاف الثورة والزج بشبابها وشاباتها في المعتقلات.
كانت الحرب -ولا تزال- سلاح القوي المستبد في غير بلد، ولكنها في سوريا وليبيا واليمن تتخذ الشكل الأبشع والدموي. ففي سوريا أطلق النظام يد الجيش والأمن و"الشبيحة" ضد الجماهير التي ظلت تتظاهر لأكثر من ستة أشهر داعية لإسقاط النظام؛ فرمت أمريكا وبريطانيا وفرنسا وتركيا وإسرائيل والأردن بالدواعش والإرهابيين من مختلف دول العالم، وقامت السعودية وقطر والإمارات بتمويل الحرب ضد الثورة، وكان الهدف الأساس تدمير الكيان السوري وتقسيم سوريا، وتصفية الاحتجاجات السلمية.
تصفية المقاومة الشعبية السلمية هدفٌ رئيس ومشترك بين النظام وأمريكا وتركيا وإسرائيل وحلفائهم العرب، ثم إن تدمير الكيان السوري وتمزيق سوريا هدف أساس لهذه الدول التي جندت آلاف المرتزقة والإرهابيين من العديد من دول العالم.
المقاومة الشعبية السلمية ما تزال تتصاعد في السودان ولبنان والعراق، وتشهد ليبيا محاولة تسوية بين أطراف الصراع، بينما دخان الحرب والصراع في سوريا والعراق واليمن ما يزال يطغى على الاحتجاجات المدنية ويعيق الثورة الشعبية السلمية. وتصاعد القمع وانفلات العنف في المنطقة العربية له عدة أهداف، من أهمها تكريس الاحتكام إلى القوة، كسبيل وحيد للوصول إلى الحكم ودفن الاحتجاج المدني كخطر يتهدد الجميع. فالحرب والصراع الدموي هما الأداة الوحيدة التي يتعلمها ويتقنها المستبدون للتسيّد والحكم، بينما تؤكد الاحتجاجات السلمية والمقاومة الشعبية وحدة المصير العربي، سواء في فلسطين المحتلة في مواجهة الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي، أو في عموم البلدان العربية المحكومة بقوى الطغيان والفساد؛ وذلكم ما يفسر التماهي بين أساليب القمع بين الاحتلال الاستيطاني ضد الشعب الفلسطيني والقمع الدموي ضد الانتفاضات الشعبية الفلسطينية المستمرة منذ الثلاثينيات وحتى اليوم. وهو أيضًا ما يفسر لنا الهرولة نحو التطبيع وكشف القناع عن وجه الحكم في بعض دول الخليج والعسكر بين السودانيين ومدى ارتباطهم بإسرائيل، ومدى الاحتياج للحماية من بلدانهم وشعوب أمتهم. المقاومة الشعبية السلمية كشفت سوءة النظام العربي كله، سواء المتوارث كملكية خاصة أو الآتي من الشرعية الثورية التي فقدت الشرعية والثورية. وبرهنت المقاومة الشعبية أن الترابط بين الحكام الطغاة في المنطقة العربية والاحتلال الإسرائيلي عميق، وأن الإمبريالية والصهيونية هما حماة إسرائيل والأنظمة العربية التابعة. فبمقدار تصاعد الاحتجاجات السلمية في البلدان العربية والمقاومة الشعبية في فلسطين، بمقدار تزايد التعاون بين الأنظمة العربية التابعة وإسرائيل.
المأساة اليمنية هي الوجه الآخر لمأساة لبنان؛ فالحرب فيه والحرب عليه، جعلت منه أسوأ كارثة يشهدها العصر. المجاعة فيه تتجاوز الـ80%، والقتلى أكثر من ربع مليون، والأوبئة الفتاكة تسابق ضحايا الحرب، والمشردون داخل وطنهم أكثر من ثلاثة ملايين، والحرب في تصاعد
واهمٌ من يعتقد بأن ثورة الربيع العربي قد تلاشت، فهي اليوم أكثر توهجًا واندفاعًا في الجزائر، حيث يتصدى المحتجون لبقايا حكم العسكر، مطالبين بدولة مدنية وديمقراطية وإسقاط ومساءلة رموز الفساد. وفي السودان، حيث اختطف العسكريون أتباع البشير الثورة الشعبية السلمية، فإن الإضرابات والمظاهرات والرفض لتسيُّد عسكر النميري وذراعه "الجنجويد" في تزايد. وفي العراق فإن الاحتجاجات، في بغداد والبصرة وعدة مدن ضد المليشيات الموالية لإيران وضد القواعد الأمريكية، شبه يومية، ويكون لبنان الآن، عنوان ثورة الربيع العربي في مجلاها الجديد. يتعرض لبنان لكارثة مركبة معقدة ومتداخلة؛ فتحالف الموارنة-التيار الوطني الحر وحزب الله وحركة أمل والدعم الإيراني قد فاقم الصراع اللبناني وقوّى وأجج الصراع الطائفي الموروث منذ الاستقلال. الحكم الطائفي في لبنان أدى إلى كوارث وفساد؛ كوارث تهدد الكيان والشعب اللبناني، خصوصًا بعد الاحتكام للسلاح في غير حرب، وفضائح تدمير مرفأ بيروت وانهيار الليرة اللبنانية وحالة الفقر حد المجاعة، وتمسك زعماء الأحزاب والطوائف بالتقاسم والاستنقاع في الحكم باسم الطوائف. ومنذ أكثر من عام خرج اللبنانيون للشوارع مرددين "كلهِن يعني كلهِن"، ولا خلاص للبنان واللبنانيين إلا برحيل الزعامات الطائفية التي أغرقت لبنان في الفساد.
المأساة اليمنية هي الوجه الآخر لمأساة لبنان؛ فالحرب فيه والحرب عليه، جعلت منه أسوأ كارثة يشهدها العصر. المجاعة فيه تتجاوز الـ80%، والقتلى أكثر من ربع مليون، والأوبئة الفتاكة تسابق ضحايا الحرب، والمشردون داخل وطنهم أكثر من ثلاثة ملايين، والحرب في تصاعد؛ نظام صالح وأحزاب الحكم هم من جرّ البلاد إلى الحرب للخلاص من الاحتجاجات السلمية، وكان انقلاب الـ21 من سبتمبر 2014، ذروة وبداية اتساع نطاق الحرب لتعم اليمن، وتستدعي الصراع الإقليمي والدولي الذي أصبح الأقوى، وحوّل اليمن إلى ميدان قتال، وجعل من اليمنيين "شقاة" في هذه الحرب.
الملمح الأهم، أن المقاومة السلمية هي البديل الأرقى للحرب المسعَّرة في غير منطقة، وهي البديل للتغير بالقوة، الذي دومًا مآله دوران طاحونته التي لا تتوقف ولا تنتهي.